الخطة العظيمة .. قصة: مصطفى تاج الدين الموسى

مصطفى تاج الدين الموسى21 يناير 2019Last Update :
مصطفى تاج الدين الموسى

الخطة العظيمة .. قصة للأديب السوري: مصطفى تاج الدين الموسى  

منذ أشهرٍ عدة ونحن ــ ما تبقى من سكان حارتنا ــ محاصرون بين أنقاض بيوتنا، ننتظر بملل قطعان العسكر حتى يهجموا علينا ويذبحونا كما فعلوا مع سكان الحارات الأخرى، في هذه الحرب الطويلة.

نمضي أيامنا بالتثاؤب داخل هذا القبو الواسع تحاشياً للقذائف، ونتخيل في العتمة كيف سننقرض كشعب خلال وقت قصير، لنتحول إلى مجرّد معلومة في المناهج الدراسية لدى الشعوب الأخرى.

هذه البلاد ــ كما كنّا نتخيل ــ لن يظل بها أحد غير العسكر عما قريب.

ذات أربعاء، ثمّة فكرةٌ رائعة لخطةٍ عظيمة لمعتْ في رأسي، وقتها شهقتُ وجسدي يرتجف وكأن آيةً قد هبطتْ عليَّ من السماء، خطةٌ عظيمة بمثابة معجزة عقلية، سوف تحمي شعبي من الإبادة والانقراض، لتمنحنا فرصة نادرة للخلود في هذا الكون.

عندما رجع الرجال صباحاً من صيد القطط في أزقتنا ــ التي صار لحمها وجبتنا الوحيدة ــ جمعتهم مع النساء والأطفال، ثمَّ قلتُ لهم بثقة:

ـــ قررتُ أنّ أرسل إلى الفضاء الخارجي برميلاً فيه طفل وطفلة من حارتنا، ليسقط على كوكبٍ ما.. حيث تبدأ حياة جديدة هناك.. ننقرض هنا على الأرض، لكن بعد قرون قليلة نصير شعباً كاملاً هنالك على ذلك الكوكب..

منهّم من أذهلته خطتي العظيمة، ومنّهم من اتهمني بالجنون.

أخي وسعاد كانا أوّل من آمن بخطتي.

طلبتُ من أخي المختص بتصليح المحركات الآلية، وتعطيلها، قبل الحرب، وتصميم العبوات الناسفة بعد الحرب، أن يصنع أربعة صواريخ، تستطيع أن تقذف برميلاً إلى الفضاء الخارجي بسرعة دون أن تنتبه له المدافع والدبابات للعسكر الحقراء.

عثرتُ على برميلٍ في زقاقٍ خلفي، فدحرجته حتى باب القبو، وبدأت بتنظيفه وتجهيزه ليصير مناسباً لخطتي العظيمة، ثمَّ أجريتُ مقابلات مع أطفال القبو، بالرغم من توسلات بعض الأمهات، اخترتُ كلاً من يمان وجمانة (6سنوات) لأنهما الأذكى والأجمل من بين أطفالنا كلهم.. وبهذا أضمن نشوء شعبٍ جديد ونقي ومتميز.

خلدون الحقير سخر منّي ثلاث مرات، هذا الكافر لم يؤمن بخطتي، لم أهتم.

تابعتُ تجهيز برميلي وثمّة نشوة روحية هائلة تمتلكني، بينما عدد المؤمنين بخطتي يزداد ساعة بعد ساعةز. برميلي هذا هو عبارة عن تجلٍّ آخر لسفينة نوح.

يمان سوف يكون أدم الجديد، وجمانة سوف تكون حواء الجديدة على ذلك الكوكب.

أحسستُ بأنّني شيء يشبه الإله، ليس إلهً تماماً.. لنقل إنّني إلهٌ إلا خمس دقائق.

أيضاً، نويتُ أن أضع عدة أشياء ضرورية في البرميل، وهي:

1ــ قصصي: لتكون بداية انطلاق الآداب لدى شعبي الجديد في ذلك الكوكب، مثل الإلياذة عند اليونانيين، والمعلقات الشعرية عند العرب.

2ــ رسومات سعاد: لتكون بداية انطلاق الفنون عندهم.

3ــ رسالة: أشرح فيها للأجيال التي سوف تأتي من يمان وجمانة، كيف انقرض أجدادهم على كوكب الأرض بمجازر العسكر.

4ــ كمشة من زهور الياسمين: لتزرعها جمانة على ذلك الكوكب، فتصير بعد قرون قليلة عاصمتنا الجديدة.

5ــ عدّة صور شخصيّة ليّ: ليعرف الشعب الجديد من الذي اخترعه.

مرّة انحنيتُ على يمان وحذرته:

ـــ قد تسقطا على كوكب فيه كائنات غريبة، لا تخف منهم، أعطهم الرسالة وبعضاً من قصصي، وحدثهم عنّا وعن مأساتنا..

في الأربعاء التالي صار البرميل جاهزاً والصواريخ مثبتة أسفله، صرختُ على يمان وجمانة، ثم أنزلتهما فيه ليقرفصا داخله.

ابتعدتُ قليلاً لأتأمل برميلي، وأنا أتخيّل الأجيال القادمة من الشعب الجديد على ذلك الكوكب، تنحني لتماثيل ليّ نحتوها مستعينين بصوري، احتراماً لمن اخترعهم.

فجأةً، سمعتُ صوت بكاء جمانة يعلو، فأسرعُت إلى البرميل وسألتها:

ـــ لماذا تبكين عمو؟..

رفعتْ رأسها وتمتمتْ لي وهي تشير بخوف إلى يمان:

ـــ إنه يقبّلني..

ـــ يا حقير..

التقطته من شعره لأرفعه خارج البرميل، ثمَّ جررته بعيداً حيث صفعته بقسوة، حذرته بعد شتيمة بذيئة وأنا أفرك أذنه:

ـــ اسمع ولاك.. بعد أن تسقطا على ذلك الكوكب إياك أن تلمس جمانة أو أن تقترب منها.. وإنما تبدأ بعد الأيام على أصابعك.. وبعد مرور اثنا عشر عاماً.. وقتها يحق لك أن تقترب منها وتقبلها.. وخلال هذه الأعوام إن رغبت هي بتقبيلك لا مشكلة.. لكن أنت ممنوع.. أفهمت؟..

سالتْ من عينه دمعة وهو يقول:

ـــ اثنا عشر عاماً !!.. والله العظيم هذا كثير..

ـــ اخرس.. لا كثير ولا قليل.. يجب أن تكون (أدم) وليس (علاء زلزلي)..

جررته ثانيةً من أذنه وأنا أركله ثمَّ رميته داخل البرميل، ورميتُ فوقه كيس الأشياء الضرورية.

نزلتُ إلى القبو وصرختُ على الجميع، لنخرج ونجتمع حول البرميل.

لوّحوا بحزن مودّعين جمانة التي لوّحتُ لهم أيضاً، يمان لم يلوّح لأحد، بينما أصابعي المرسومة على خده تهتز، وكأنها تودعني، ثم أغلقتُ عليهما غطاء البرميل بإحكام.

أشعلتُ الصواريخ وابتعدتُ قليلاً، انقذف البرميل وطار عالياً، ظللنا نراقبه حتى اختفى في سماء الصباح.

أهل الحارة نظروا إليَّ بفرح، أحدهم بدأ يصفق ببطء.. ثمَّ شرعوا كلهم بتصفيق مدوٍّ.

لقد نجحتْ خطتي العظيمة، نعم.. لن ننقرض أبداً رغم أنف مجازر العسكر، لقد ربحنا الخلود على كوكبٍ آخر، أنا أعظم من نوح وبرميلي أعظم من سفينته.

لم أسمع تصفيقهم، كنتُ أسمع عزفاً منفرداً هادئاً على البيانو يأتي من جهةٍ مجهولة، كانت روحي منتشية.

كادتْ سعاد أن تركض إليَّ لتعانقني وتقبلني أمام الجميع، لتعلن نهاية المرحلة السرية من قصة حبنا، وأنا أرفع كفي لأحييهم و……

سقط البرميل على رأسي، تهشمتْ جمجمتي وانكسرتْ عظامي، ودخلتُ في غيبوبة.

الشباب حملوني إلى المشفى الميداني المتواضع، حيث بقيتُ أحتضر فيه لثلاثة أسابيع، قبل أن أموت وأدفن في الزقاق خلف القبو، جانب قبرٍ صغير لـ جمانة.

كنت أظن أنّني إلهٌ إلا خمس دقائق، اكتشفتُ أنّني مجرّد أحمق، وأنّ الانقراض هو مصيرنا الحتمي، فرجع الجميع إلى الملل والتثاؤب بانتظار الذبح، على يد العسكر.

عندما كنت أصحو من غيبوبتي قليلاً، كان الشباب يحكون لي عن يمان.

فبعد أن سقط البرميل وتدحرج طويلاً، أسرعوا وفتحوا غطاءه، جمانة كانتْ ميتة، أما يمان فقد أصيب ببعض الجروح.

لكنه، ومنذ أن خرج من البرميل ــ ورغم مرور الأيام ــ إلا أنه يتعامل مع أهله ومع جميع سكان القبو، على أنهم الكائنات الفضائية الغريبة، ويحدثهم عنا وعن مأساتنا، ثمَّ يناولهم بعضاً من قصصي المضرجة بالدم وتلك الرسالة.

وفي الليل ينزوي بعيداً ليجلس وحيداً، يتأمل يده.. يثني إصبعاً، ثمَّ يهذي بصوت خافت وحزين، وهو يهز رأسه:

ـــ اثنا عشر عاماً !!.. يااااااااااه.. والله العظيم هذا كثير.. والله العظيم هذا كثير.. والله العظيم هذا كثير..

/1/12/2013/ 

الأديب السوري مصطفى تاج الدين الموسى

الأديب مصطفى تاج الدين الموسى في سطور:

* قاص سوري من مواليد 1981 في إدلب، ويحمل إجازة في الإعلام من جامعة دمشق.

* يكتب القصة القصيرة والمقال والدراسات الادبية والنصوص المسرحية، وحاز على عدد من الجوائز الأدبية منها جائزة الشارقة للإبداع الأدبي – القصة القصيرة – في العام 2012

* صدر له المجموعات القصصيّة التالية:

1ــ (قبو رطب لثلاثة رسامين)  ط1/دائرة الثقافة في حكومة الشارقة (2012)، ط2 دار نون في سوريا (2013)، ط3 دار ألكا في مرسيليا فرنسا (2017)، وصدرتْ مترجمة للغة الكُردية عن دار جي جي في تركيا (2018).

2 ــ (مزهرية من مجزرة) دار بيت المواطن للنشر والتوزيع، الرابطة السوريّة للمواطنة ــ بيروت ــ ضمن السلسلة الأدبيّة الشهريّة (شهادات سوريّة) العدد السابع (2014).

3ــ (الخوف في منتصف حقلٍ واسع)، دار المتوسط في نابولي، إيطاليا. بالتعاون مع جائزة المزرعة (2015)، وتصدر ترجمتها قريباً باللغة اليونانية.

4ــ (نصف ساعة احتضار)، دار روايات الإماراتيّة (2016).

5ــ (آخر الأصدقاء لامرأة جميلة)، دار فضاءات الأردنية (2017).

* وله مخطوطات قيد الطبع: (حافلة مليئة بالحقراء) تضم 15 قصة قصيرة، تصدر قريباً، إضافة إلى مختارات قصصية باللغة الفرنسية قريباً، عن دار أكت سود في باريس.

* صدر له المسرحيات التالية:

1ـــ (صديقة النافذة) ط1 عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة الإمارات /2017/، ط2 عن دار نون، تركيا /2017/.

2 ـــ (عندما توقف الزمن في القبو الرطب) مونودراما، إصدار خاص، تركيا /2017/.

 

Comments

Sorry Comments are closed

    عاجل