ما هو حلم الحرية الذي راود الشعب السوري؟
وما هي الحرية التي أرادها السوريون؟
هو سؤال البديهيات المعقدة، المربك حد الدهشة، لكن الإجابة ليست مستحيلة، بل تكاد تكون ماثلة في خاطر كل حر.
عاش الشعب السوري في عزلة طويلة عن العالم الخارجي في ظل نظام الأسد الأب والابن، لم يعرف عن مفهوم الحرية التي حرم منها لسنوات طويلة، ولم يعتد عليها، إلا ما سمعه من شعارات فارغة عنها، فهو لم يعايشها حقيقة، وانما ظلت حلم النخب والمثقفين والراغبين في الانعتاق من الظلم والتهميش، ظلت حلماً بعيد المنال يراود مخيلة السوري على أمل أن يحظى بها يوماً ما.
ومع انطلاق الثورة السورية في آذار من العام 2011 لاحت الفرصة الحقيقية للمطالبة بها، ومضى جزء من الشعب مندفعاً وراء حلمه، لم يأبه بالمخاطر والإجرام الذي ينتظره، ضحى بالغالي والنفيس ودفع ثمناً باهظاً لم يكن متوقعاً من أجل الحصول عليها، كيف لا وهي مطلب بديهي من مطالب الحياة للبشر، لا يقل أهمية عن حاجات أساسية كالمأكل والمشرب والهواء، وحق طبيعي لكل كائن حي في هذا الوجود.
هتف معظمنا للحرية، حتى بحت الحناجر، أردناها بشدة رغم القتل والتنكيل والعنف، لم نتراجع يوماً عنها، لكن هل كنا فعلاً ندرك المعنى الحقيقي للحرية؟ وهل كان مجتمعنا مستعداً لها وجاهزاً لتمثّلها؟
يعني مفهوم الحرية بالمعنى العام إمكانية الفرد – ذكراً كان أم أنثى – اتخاذ القرارات التي تتعلق بمصيره دون إجبار أو إكراه، ودون قيد أو شرط أو تحديد مسبق من الآخرين، وتبني خيار من عدة خيارات متاحة، دون ممارسة أي ضغوط عليه، ومفهوم الحرية واسع جدا يشمل الكثير والكثير من الحريات، منها على سبيل المثال لا الحصر: حرية التعبير والرأي والتفكير والاعتقاد والتنقل والتملك ….. ومن أبرز مظاهر حرية الأفراد حرية المرأة، وهو حق لم يبلغ فيه مجتمعنا مرحلة الاعتراف به للمرأة حتى الآن، رغم كل مظاهر ومحاولات تبني منظومة حقوق متقدمة للمرأة.
وإذا دققنا بالواقع السوري نجد أن الخطاب الذي تبناه الشعب السوري ركز على المطالبة بالحريات السياسية فقط، كحرية التعبير والتظاهر السلمي وتداول السلطة، وانتخاب قادته، وهي بلا شك مطالب مهمة ومحقة وشرعية وعادلة، لكنها ظلت مطالب قاصرة عن تجاوز ثقافة مجتمعية غير مؤسسة على فهم عميق للحريات وحقوق الفرد في المجتمعات المتقدمة، وبقي بالتالي خطاب المطالبة بالحقوق والحريات الأساسية، بما في ذلك مطالب الثوار، قاصرة عن حاجة المجتمع لنهضة حقيقية، ويختصر مفهوم الحرية الواسع بتحديدات تعكس فهماً غير ناضج لمستقبل الشعب والبلاد.
الحرية مفهوم يشكل كلاً لا يتجزأ، والمطالب الانتقائية بحريات دون أخرى يعني أننا غير مهيئين فعلاً لنكون دعاة حرية، رغم كون الجميع مستحق لها، وفي أحسن الأحوال فإن المطالبة المنقوصة بحريات وتجاهل أخرى يعني أن وعينا قاصر عن فهم ضرورة الحرية لنهضة مجتمعنا، أو أننا غير متقبلين للحريات بمفهومها الواسع الشامل أو غير قادرين على التعايش معها، وتحكم نظرتنا للحرية مجموعة محددات تمليها العادات البالية أو الأعراف الاجتماعية المتخلفة، أو فهمنا الخاص – غير الصحيح بالضرورة – لمنظومة قواعد الأديان والمعتقدات.
هذا التفسير يجد ما يدعمه من خلال الصدمة الثقافية التي عاشها السوريون في بلاد اللجوء في الدول الغربية، التي وصلت حد الارتطام القاتل في بعض الأحيان بقواعد قانونية ومجتمعية تتعارض كلياً مع ما ألفناه وتربينا عليه من عادات وقوانين في مجتمعاتنا.
وبملاحظة تفاعل السوريين المهجرين في البلاد الغربية مع منظومات القانون والعادات المجتمعية الناظمة للحريات، في تلك البلدان نجد الكثير من السوريين لم يتقبل فكرة الحرية بشكل أو بآخر، والكثيرون اعتبروها انحلالاً أخلاقياً، وآثر العودة إلى الوطن والتخلي عن الأمان والحريات بشكل نهائي، فيما فضل البعض من السوريين البحث عن إمكانية العيش في إحدى الدول العربية أو القريبة من الدول الإسلامية مثل تركيا، ومنهم من قرر البقاء لكنه انغلق على نفسه بشكل كامل خوفاً من الانخراط بالمجتمع الجديد والاندماج الايجابي فيه، وانعكس هذا الانغلاق على الأطفال الذين باتوا في حيرة شديدة وفصام حاد بين مجتمع متحرر يعيشون تفاصيله اليومية، وواقع مغاير ومغلق تماماً يعيشونه مع عائلاتهم في المنزل، ولايعرفون أي اتجاه يتبعون، وأي اتجاه هو الصحيح، وأي اتجاه هو الشاذ.
ومنهم من أساء استخدام ما أتيح له من حريات، أو أساء فهمها إن صح التعبير، فلم يدرك حدودها، وتعامل معها بشكل مطلق أو رغبوي، دون أن يراعي احترام القوانين وحريات الآخرين، وارتكب أخطاء فادحة وصلت في بعض الأحيان حد الجريمة، و كان هذا هو النموذج الأسوأ على الاطلاق لتعامل السوريين مع الحرية.
ورغم إقرارنا بصعوبة التعاطي بشكل ناجح وسريع مع قواعد ومنظومات الحرية في المجتمعات الغربية، وتقبلها كما هي، إلا أنه من حقنا أن نحلم للسوريين بنجاحات معقولة على هذا الصعيد، ومن حقنا أن نتطلع لنموذج آخر أكثر مثالية أو إيجابية في تعامل شعبنا مع حلم الحرية، نموذج يعبر عن فهم ووعي وإدارك جيد لمعاني الحرية ويميز بينها وبين الانحراف، يحترم حريات الآخرين وخياراتهم دون أن يمارس رقابته وانتقاده للغير، ودون توجيه اتهامات لهم بالشذوذ عن عادات وتقاليد المجتمع الشرقي، أو عدم مراعاة واحترام قواعد الدين والعرف والعادات.
من حقنا أن نحلم لشعبنا الذي ضحى كثيراً، أن يكون جزءاً فاعلاً من المجتمع الانساني، يساهم في حضارة الإنسان وهو مدرك لحقوقه وواجباته، ومدرك تماماً لمعنى الحرية.. وعندها نكون جديرين بها ومستحقين لجمالياتها، أحراراً بكل معنى الكلمة.
عذراً التعليقات مغلقة