يُعتبر الحدث (القاصر) في المجتمع كالبرعم الطّري الغضّ في البريّة، ثؤثر فيه الرياح مهما كانت خفيفة، ويؤكد علماء السلوك الاجتماعي أن الحدث أكثر عُرضةً من الكبار للتأثر بالظروف المحيطة به في المجتمع.
ولذلك إذا خرج الحدث عن جادّة الصواب في تصرفاته، وجنحَ نحو سلوك غير قانوني، فهو أولى بالرعاية والإرشاد، وبالتالي ينبغي أن تُطبّق عليه أصول وإجراءات خاصة أثناء الملاحقة والتحقيق والمحاكمة عند ارتكابه جرماً أو مخالفة قانونية، بحيث تُراعى حداثة سنه، وعدم اكتمال أهليته وعدم نضوج وعيه وتقديراته للأمور، بحيث يكون الهدف إصلاحه وإعادة دمجه في مجتمعه، لا عقابه.
وانطلاقاً من هذه الاعتبارات، فقد ترسخت على الصّعيد الدولي حقوقُ الطفل في اتفاقية دولية تتعهد الدول الموقعة عليها بالالتزام بهذه الحقوق، وتضمينها في قوانينها الوطنية. ونجم عن ذلك ماسُمي (اتفاقية حقوق الطفل الدولية) عام 1989.
وكان من أهم المبادئ والضمانات التي كفلتها هذه الاتفاقية المتعلقة بالأحداث الجانحين، التي يجب مراعاتها لدى محاكمتهم:
1- إبلاغ ذوي الحدث فور إلقاء القبض عليه.
2- افتراض البراءة في الحدث لا الإدانة.
3- حق حضور أحد الوالدين للمحاكمة.
4- حظر التعذيب والحكم بالإعدام والسجن مدى الحياة.
5- فصل قضاء الأحداث عن القضاء العادي للراشدين.
6- سرعة الفصل بالدعوى.
7-حق الاستعانة بمحامِ للدفاع عنه.
ولقد وقّعت سوريا على هذه الاتفاقية، وبالتالي فهي تعتبر ملتزمة بما جاء فيها من مبادئ وضمانات لحماية حقوق الأحداث في أثناء الملاحقة والتحقيق والمحاكمة.
والحدث قانوناً: كل ذكر أو أنثى لم يتم الثامنة عشرة.
وإذا استعرضنا أحكام قانون الأحداث السوري تتحصّل لدينا قناعةٌ بأنّه وفّر إلى حدٍّ كبير الضمانات اللازمة لمحاكمةٍ عادلةٍ للحدث، وجاء منسجماً مع المعايير والمبادئ الدولية الواردة في اتفاقية حقوق الطفل الدولية المذكورة.
وفي التطبيق العملي يمكننا القول إن المحاكم السورية حافظت إلى حدٍّ معقولٍ على توفير تلك الضمانات عند محاكمة الأحداث.
ولكنّ الأمر انقلب رأساً على عقب عند إصدار النظام السوري قانون مكافحة الإرهاب، واستحداث محكمة الإرهاب الذي جاء ردّاً على الحراك الشعبي السلمي في ربيع العام 2011، وضربَ عرض الحائط بكلّ معايير الحماية المقررة للحدث، فكان بمثابة تفريغٍ لتلك المبادئ والضمانات من مضمونها؛ وقد تجلّت هذه الخروقات وهذا التفريغ في الجوانب الأساسية التالية:
أ- من حيث اختصاص محكمة الإرهاب بمحاكمة الأحداث:
وهذا شكّل خرقاً لمبدأ الفصل بين قضاء الأحداث والقضاء الذي يحاكم الراشدين، وعليه غصّت محكمة الإرهاب بآلاف الأحداث الذين كان من الواجب قانوناً محاكمتهم أمام محاكم الأحداث المستقلة والخاصة بهم.
ب- من حيث تشكيل المحكمة:
لقد شكّل قانون الأحداث محاكم الأحداث بطريقة راعى فيها الحدث وسنه وظروفه بصفته طفلاً بحاجة إلى رعايةٍ وإصلاح، فكان إلى جانب رئيس محكمة الأحداث عضوان من حملة الشهادة العالية، ترشحهما وزارات التعليم العالي والتربية، والشؤون الاجتماعية والعمل ومنظمة الاتحاد النسائي.
في حين أنه يدخل في تشكيل محكمة الإرهاب عضوان إلى جانب الرئيس، أحدهما ضابط عسكري برتبة عالية، وشتان ما بين التشكيلين، إذ إن مجرد مثول الحدث أمام محكمة يعتلي منصتها ضابط ذو رتبة عسكرية كبيرةٍ تلتهم كتفه كافٍ لبثّ الرهبة والخوف في نفس الحدث، وهذا كله يشكل خروجاً على ضمانات المحاكمة العادلة للحدث.
ج – من حيث إعفاء محكمة الإرهاب عند محاكمة الأحداث من التقيد بالإجراءات والأصول القانونية التي تشكل ضمانات لمحاكمة عادلة للأحداث:
وقد نجمت عن هذا الإعفاء آثار خطيرة على كل من الصعيد القانوني والنفسي والاجتماعي للحدث وهي:
1- تستطيع محكمة الإرهاب أن توقف الحدث وتحاكمه دون دعوة وليه لحضور جلسات المحاكمة، ولا يخفى ما يشكّل حضور ولي الحدث مع ابنه من عامل اطمئنان ورأبٍ للتصدع النفسي الذي يعاني منه الحدث نتيجة ظروف اعتقاله وتوقيفه الصعبة، والرتب العسكرية التي تسدُّ عليه الهواء وآلام غيابه عن أهله.
2- عقد الجلسة دون حضور محامٍ للدفاع عن الحدث.
3- عدم البت بسرعة في قضية الحدث، حيث يوجد آلاف من الأحداث الذين تجاوزوا سن الحداثة وأصبحوا راشدين وما زالوا موقوفين، ففاتت عليهم فرصة إكمال دراستهم الثانوية والجامعية ربما.
والجدير ذكره أنّ أخطر التطبيقات آثاراً على الحدث هما التطبيقان الآتيان نظراً لشيوعِ الصبغة الانتقامية فيهما:
4- عدم وجود قاضي إحالة في محكمة الإرهاب.
إن قاضي الإحالة هو درجة أعلى من قاضي التحقيق، تُستأنفُ لديه قرارات قاضي التحقيق، وبالتالي فإن عدم وجود قاضي إحالة في محاكم الإرهاب، يحرم الحدث من إمكانية الطعن في قرار قاضي التحقيق الصادر بإدانته.
وما يجري في الواقع العملي أن الدعوى تحال من قاضي التحقيق إلى محكمة الإرهاب مباشرة، التي تصادقُ في معظم الحالات على قرار قاضي التحقيق بالإدانة، فاتكةً بالحدث وبمستقبله.
5 – عدم أخذ محكمة الإرهاب بمبدأ سقوط الأحكام الغيابية.
ومفاد ذلك أنه مثلاً إذا سبق وأصدرت محكمة الإرهاب قراراً يقضي بالحبس لمدة خمس سنوات بحق حدث على الغياب (أي جرت محاكمته متوارياً عن الأنظار دون حضوره) ثم أُلقي القبض عليه، فتُطبق العقوبة بحقه مباشرةً دون منحه فرصةً لإعادة المحاكمة من جديد، والدفاع عن نفسه ضد قرارٍ أخذ به غيلةً.
والجدير ذكره أخيراً أن النظام وتحت تأثير الانتقادات الحادة من منظمات حقوق الإنسان السورية والدولية، خفّف قليلاً من وطأة أحكام قانون الإرهاب على الأحداث حين استحدث قاضي تحقيق خاص بالأحداث في قضايا الإرهاب، وذلك في عام 2017، أي بعد خمس سنوات من صدور القانون.
وختاماً، فإنّ قانون مكافحة الإرهاب وأخوته، يشكّلون ضربةً قاصمةً لكلّ الضمانات الراسخة دولياً، والواجبة مراعاتها عند محاكمة الأحداث.
هذه القوانين التي سنتها مداجن النظام القانونية عن أحكام تجاوزت الفانتازيا بأشواطٍ في تعاملها مع أحداث صغار كإرهابيين، كان ذنبهم أنهم خطّوا بمداد البراءة على الجدران حرية.. حرية.
Sorry Comments are closed