وُجوه
سليمان نحيلي
بعد الشّتات السّوريّ في كل أصقاع الأرض، استمرّ مبدعو سورية في مواصلة مسيرتهم الإبداعية من منافيهم تجمعهم بواعث الحنين إلى الوطن والأهل، والرغبة في الخلاص من الظلم والقهر والفساد وصولاً إلى سورية التي نحلم.
من هذه الاعتبارات، فقد رأيت أنه من الواجب علينا أن نعيد تسليط الضوء على تلك الوجوه التي غيّبتها المنافي – لكنها لم تزل حاضرةً، تصارع الغياب والظلم بالإبداع، وفيةً لرسالة الفن في النضال والتّغيير – وذلك عبر سلسلةٍ هي أقرب للتعريف بالمبدع ونتاجه منها للبحث الفني والنقدي، مكتفياً بنبذةٍ عن حياة المبدع ونتاجه حسب المتوفر من أعماله على صفحات الفيس بوك، أو مما تيسّر لنا الاطلاع عليه من أعماله، إنها مقاربة فنية لتجربة كلٍّ منهم.
حسن إبراهيم الحسن
بدويُّ الدّانوب الميّت شوقاً إلى حلب
بالرّغم من تزاحم الأسماء الشّعريّة، فقد وطّد لنفسه كشاعرٍ ذي قامةٍ شعريّةٍ باذخة، لمجملِ إبداعه بصمةٌ خاصةٌ به، تمايزه عن غيره من المبدعين.
وُلد الشاعر حسن إبراهيم الحسن في جديدة الجرش إحدى قرى البادية الشّامية عام 1976 من القرن المنصرم، وكان لهذه النشأة الأثر الهام في تكوين حسّه الشّعري المرهف، فهو البدويّ الذي يحنّ إلى الصحراء، إلى النشأة الأولى، حيث البساطة وصفاء الطبيعة والذهن، حيث يجد الانسان ذاته في خلوته بعيداً عن كل الملوثات الحديثة المادية والروحية، وظهر ذلك في شعره حيث يقول:
كم أنتَ في الصحراء أنتَ
قريبةٌ منك السماءُ
على جفونكً مُسدله
لا شيء يخدش صفوَ مائكَ
إذ تفيض الأسئلة..
ثم انتقل الشاعر إلى حلب للدراسة، وحين أنهى تحصيله العلمي، استقرّ فيها وعشقها حدّ الوله، وكان يحاكي فيها روحي المتنبي وأبي فراس اللذين كان لهما أثر خاص في نفسه.
وهو يُعدّ حقّاً من الشعراء الدّؤوبين، ويحفل سجلّه الشعري بكم وافرٍ من الجوائز والأوسمة الشعرية على المستوى المحلي والعربي معاً، كما ترجمت الكثير من قصائده إلى اللغات الألمانية والإيطالية والاسبانية.
لكنّ سعادة هذه الأوسمة والجوائز لم تضمّد جراحه على وطنه عندما اندلعت بين أبناء البلد الواحد (حرب الطوائف) كما سمّاها، فتبدّل ربيع أوسمته الزاخر الزاهر إلى خريف الأوسمة.
وبنية النّص لديه مشحونةٌ بطاقةٍ هائلةٍ من العاطفة تتساوق مع رؤية واضحةٍ ووعيّ كاملٍ لما يشتغل عليه.
حيث الأدب لديه يعيش معه في خطّ متوازٍ مع الحياة، حتى لتشعر وأنت تقرأ مجموعاته الواحدة تلو الأخرى بذلك الخط اللامرئي الذي تسير عليه قصيدته إلى جانب حياته. ولذلك يمكننا القول أن مجموعاته الخمس تشكّل سيرةً ذاتيةً عبر انفتاحٍ مدروس غير فجّ على العام بكل أبعاده، إنه يكتب الخاص بشعور العام المجموع، والعام بألم وتفرّد الخاص، لذلك يتطابق شعره على كل من يشبهه بالألم والحرية.
ويوصف حسن بأنه شاعر الذكريات واللحظات الجميلة الهاربة، وهو يفصح عن ذلك في ديوانه (ها أنت وحدي) إذ يهمس:
أسيرُ قليلاً إلى الذكريات
لعلّي أُرمّمُ حولي العدم
وهو كشاعرّ وإنسان، بعيد كل البعد عن الروابط المحدودة والضيقة في علاقاته مع الغير المختلف، يؤمن بالانسانية كقاسمٍ مشتركٍ أخلاقي وفكري أوحدَ للبشر، يقول:
أنثى من الغرباء
تُضمّد جرح الغربب
كُلْ خبزنا ياغريبُ
ولا تورّث الحقد لأبنائنا الآمنين
وتقترب مجموعاته الثلاث الأخيرة (غامضٌ مثل الحياة وواضحٌ كالموت، وخريف الأوسمة، وكالصّدأ العنيد على الصواري) -والحائزة جميعها على جوائز عربية- من بعضها لتتآلف مشكّلةً بناء شعرياً درامياً مؤثراً مجسداً للمأساة السورية التي يشهدها شعبه وأهله منذ اللحظة الأولى لانطلاق قافلة الحرية والعدالة في طريقها الطويل المفخخ بالآلام والدم.
وهو بذلك يعلن انتماءه إلى تلك القافلة، وبرز في هذه المجموعات ما أسلفته من تلاصق الأدب مع الحياة في سيرةٍ ذاتيةٍ للجميع، لألم الجميع من الحرب والخوف من الاعتقال الذي ذاق مرارته في سبيل الحرية، والخوف من الموت والاختطاف ومن عين القنّاص المدرّبة ومن:
القصف ساعة الظهيرة…
في ديوانه غامضٌ مثل الحياة وواضحٌ كالموت، يضعنا الشاعر منذ العنوان في مقابلةٍ تضادّيّةٍ على مستوى الشكل (الغموض، الوضوح) وعلى مستوى الموضوع (الحياة، الموت) حيث تتسرّب من هذه التّضادية الثّنائية غيومٌ فلسفةٌ تكتنف العنوان وترسل زخّاتها في أرجاء متعددة من الديوان، إنها فلسفة واقعية تنسّمها من معاناته اليومية، فلسفةُ الحصار الغامضِ كالحياة والواضح كالموت.
ومن حصاره هذا يقول للقنّاص المتربّص بطفلته وزوجته وبكل المحاصرين معه في حي هنانو في حلب ضمن صورة رائعة تجمع الإحساس والخيال معاً:
سأقول للقنّاص لو حدّقتَ في وجه الضّحية جيداً
كنتَ انتبهتَ إلى انعكاسكَ في المرايا
هل ترى أحداً سواكَ في القصاص ..
في قصيدته (برج الحصار) يجتزأ الشاعر منطقةً واحدةً حيث يقطنُ في مدينة هنانو في حلب، لتكون مسرحاً لقصائده، ليسحب هذه الحالة على كامل الرقعة الجغرافية السورية، فالوطن كله تحت الحصار، وفي الحصار تتشابه الأيام وتتكرر مجرياتها من قصفٍ وقتل وذكريات من قضوا وقنصٍ وجوعٍ ودماءٍ وترقّبٍ وانتظار بالفرج وفكّ الحصار، وفي هذه الأوضاع ماذا لشاعرٍ أن يفعل، في هذا الحصار يمسي اللقاء بالآخر والحب وكتابة القصيدة فعل تحدٍّ وفعل حياة في مواجهة الموت المتربص، وممارسة عملية للأمل فيقول:
مُسّيني لأنسى ذكريات الحرب
مُسّيني على مهلٍ لأغفو..
وفي موضع آخر يتوسل بالغناء من أجل طفلته:
أُغتّي لأحمل عن طفلتي خوفها
كلّما مرّت الطّائرات..
أُغني لتعتادَ ليلَ الرّصاص
وتحيا كما لايحبُّ الطّغاة..
وربما يكتسب اسم هتانو في مجموعاته بعداً رمزياً راسخاً في الذاكرة الجمعية السورية كإسمٍ لثائرٍ في وجه المحتل الفرنسي، علاوةً عن بعده الواقعي كمنطقة محاصرة في زمن القصيدة.
وبرأيي تمثل مرحلة الحصار ونتاج الشاعر فيها أهمّ المراحل الواقعية والشعرية له، فقد كان في موقفٍ لا يُحسدُ عليه من الموت المتربص به وبأسرته على مرّ الثواني، لذلك تبدو الكتابة في هذه الظروف أقربَ إلى المستحيل، لكن الشاعر نجح فيها بشكلٍ لافت معتمداً على تراشق الحواس والجمل القصيرة التي تتناسب مع حالة الكتابة تحت الخوف وعلى زخم تصويري مشهدي أكثر دهشةً وجدّة كما في قصيدة حرفان:
لاشيء يوجعني سوى أمرينْ
أنّ ابنتي لم تبلغ الكلمات بعد
ولم تقل (بابا)
ولكن..
من هدير الطائرات تعلّمت حرفين…
ترنو إلى الأعلى كجروٍ خائفٍ
وتقولُ: بووووو
وفي سبيل إعطاء نصّه أبعاداً عميقة وجعله زاخراً بالمعاني والمجازات يعتمد الشاعر بشكلٍ ملحوظٍ على الإشارات النّصيّة والتّاريخيّة وخاصةً من القرآن الكريم كقوله:
مازلتُ شطر سواك إن يممتُ أحرفي
إلا وكنت الفاتحة..
وكذلك نقرأ في قصائده الكثير من الإشارات كيعقوب الأعمى، يوسف، الحب، نوح، ملوك الطوائف، امرؤ القيس، شهرزاد، أبو فراس في محبسه.
شاعرنا يحدوه الأمل بحتمية علوِّ صوت الحرية فوق صوت الظلم والاستبداد، وبزوال الطغاة، يقول في ذلك:
قدر الطغاة بأن يزولوا
ثمّ تنساهم وتذكركَ الحياةُ
ولذلك فهو واضحٌ في موقفه وفكره ضد الظلم والاستبداد، ويكتسي ذلك بعداً أخلاقياً من الرماديين والحياديين الذين يعتبرهم شركاء في القتل ملطخةً أيديهم بدماء الأبرياء، يقول في ذلك:
ولا أحبُّ الصّامتين
الجالسين على الحيادِ
على أصابعهم آثار دم..
وهو ذو الحسّ الوطني والفكر الإنساني يؤلمه ما آلت إليه الأوضاع في وطنه من انقسام وحرب أهلية سمّاها “حرب الطوائف”، ويدعو الجميع إلى مراجعة النفس، وإخراج رؤوسهم من التاريخ كي تنتهي حروب الثأر التي ستفتك بالجميع والوطن فيقول:
وتوجعني الطوائفُ
حين تصنع من ترابٍ واحدٍ ضدين…
نحتاج أن نشفى من التاريخ
أو سنعيدُ تيهَ اللاحقين بقيصرا ..
شاعرنا مسكونٌ بالأمكنة التي أمست تشغل حيزاً من روحه وشعره، وخاصةً بعد أن اضطر إلى الخروج قسراً من وطنه، فنقرأ في شعره قصائد عن دمشق وحمص وشنشار والعيثة ودبي وأبو ظبي والقاهرة وحلب بالتأكيد.
ويغادر حسن الوطن إلى ألمانيا مكرهاً، هناك حيث نهر الدانوب طلباً للأمان، لكن روحه تظلّ أبداً ترفرف كعصغور غرّيدٍ في حلب فيهمس بكل شوق:
حلبٌ هناكَ..
إذاً أنا أيضاً هناك..
وما يميز أعمال الشاعر بشكل عام تقسيم وتبويب مجموعاته وإخراجها إخراجاً فنياً ودرامياً وفق بناءٍ مقابلٍ للمادة الابداعية.
وحسن الشاعر المرهف يتذكر من منفاه وطنه في نهاية سنة 2018، وأوجاعه على وطنه المستباح وشوقه إليه لا يهدآن يوما ليصلا به حدّ الموت.
لنستمع إليه في هذا المشهد المؤثر:
الثلاثمئة وخمس وستون جثةً التي تملأ ثلاجة العمرِ
ليست عاماً..
إنها المقبرة الجماعية التي ينجزها كلّ يومٍ غيابكِ
الثلاثمئة وخمس وستون جثةً
كلّها أنا
أنا في غيابكِ كلَّ يومٍ أموت..
عذراً التعليقات مغلقة