

جدران تتحدث.. بين تجارة الفظائع وصناعة التاريخ
في زمن تتحول فيه جدران السجون إلى صفحاتٍ مفتوحةٍ لتاريخين متناقضين: تاريخ يُستغل لتحقيق الربح، وآخر يُخلد لتحقيق العدالة، تبرز قضية سجن صيدنايا السوري كواحدة من أكثر القضايا إثارةً للجدل. فبينما حوّلت دول مثل ألمانيا وإسبانيا سجون أنظمتها القمعية إلى متاحف تُحارب النسيان، تُترك سجون سوريا فريسةً للعبث التجاري، حيث تُستغل معاناة ضحايا النظام السوري في حملات إعلانية تتنكر لدماءالأف السجناء.
من المؤلم أن تتحول هذه المواقع التاريخية إلى منصات للدعاية، مما يُعد إهانة لملايين الضحايا الذين فقدوا حياتهم أو عانوا في صمت. كيف يمكن لتجار الإعلانات أن يغضوا الطرف عن حقيقة أن كل زاوية من زوايا هذه الأماكن تحمل عبء ذكريات الألم والأمل المكسور؟ إن هذه المساحات ليست مجرد مواقع، بل هي محطات تاريخية تعكس مآسي الإنسانية. ووفقًا لتقرير منظمات إنسانية ودولية يُقدر أن أكثر من 60 ألف شخص قد تم إعدامهم في سجن صيدنايا خلال سنوات الثورة السورية، مما يبرز مدى المعاناة التي تخفيها هذه الجدران.
يعكس هذا النوع من الاستغلال انعدام الحس الإنساني، حيث تُحوّل المعاناة إلى فرصة لتحقيق الأرباح. أي قلوب تلك التي تجد سعادتها في تصوير إعلان في مكان يُشبه القبر الجماعي للأحلام المسلوبة، بينما يتجاهل القائمون على هذه المشاريع أوجاع الفئات المتضررة؟ إن الرقص على حافة الألم وبيع الذكريات بمقابل مادي هو أقصى درجات الاستهتار بالآخرين.
من الضروري أن نتحد في انتقاد هذا السلوك غير الأخلاقي. يجب على الجميع مواجهة هذه الممارسات التي تستخف بتضحيات الشهداء وتضرب عرض الحائط بحقوق السجناء والمعتقلين. لدينا اليوم واجب تعزيز الذاكرة الجماعية، ولكن تحويلها إلى مصدر للربح يُعتبر تقويضًا لهذه القضية. وقد ظهرت دعوات متزايدة من المفكرين والناشطين للامتناع عن استخدام الأماكن التاريخية في الإعلانات التجارية، حيث تقترح حملات توعية التركيز على المجتمعات التي تضررت، بدلا من استغلال مآسيها.
ينبغي علينا أن نمتلك الشجاعة للحديث عن هذه الانتهاكات وأن نرفع أصواتنا ضد كل من يتاجر بمعاناة الآخرين. الحل هو دعم الناجين وتكريم ذكراهم بدلا من استغلالهم لأغراض ربحية. في النهاية، لا يمكن أن تكون معاناة الإنسان مادة إعلانية، ولا يجب أن نسمح بحدوث ذلك. فلنجعل من التاريخ درسًا، وليس مجرد فرصة لتحقيق الربح في سوق الإعلانات.
غياب الحماية الحكومية: خذلان للذاكرة التاريخية
في سياق استغلال الأماكن التي تحمل ذكريات مؤلمة، نجد أن الحكومة الجديدة لم تأخذ على عاتقها مسؤولية حماية هذه المواقع كشواهد حية على تاريخ مظلم من الإجرام. من المُخجل أن تتجاهل السلطة الانتقالية الاهتمام اللازم بمواقع مثل سجن صيدنايا، الذي لا يزال يُخزن قصص الألم والاضطهاد، وتتركها فريسة للعبث التجاري. بدلا من إتخاذ تدابير لحماية هذه الأماكن، تساهم الحكومة الجديدة بشكل غير مباشر في إضفاء الشرعية على استغلالها، إذ لم تتخذ موقفًا صارمًا ضد استخدام المواقع التاريخية لأغراض تجارية.
هذا الغياب في الحماية لا يُعتبر مجرد إهمال، بل تمكينًا لأولئك الذين يتاجرون بمعاناة الآخرين، مما يساهم في تمزيق الذاكرة الجماعية وطمس آثار التاريخ. إن مسؤولية الحفاظ على الذاكرة الوطنية وتكريم الضحايا ليست مجرد واجب اجتماعي، بل هي ضرورة سياسية. يتعين على الحكومة الجديدة أن تدرك أن ذكريات تاريخ الإجرام ليست مجرد لمحات من الماضي، بل هي دعوة للمساءلة والعدالة. يجب أن تقف بحزم في وجه الذين يسعون لاستغلال هذه المواقع بحثًا عن الربح المادي.
إذا كانت الحكومات تهدف إلى بناء مستقبل أفضل، فعليها أن تعترف بالحقائق القاسية من الماضي وتعمل على الحفاظ على مساحات الذاكرة كرمز للمقاومة. إن تجاهل هذه المواقع يُعد إهمالًا لأهمية تراثنا التاريخي وعمق معاناتنا، ويجب أن يكون لنا قول ورأي في ردع هذه الممارسات وتعزيز ثقافة الذاكرة والمقاومة.
تحويل سجون القمع إلى متاحف للذاكرة: دروس من ألمانيا وإسبانيا
السجون التي شهدت فترات قمعية ليست مجرد جدران صامتة، بل ذاكرة حية تحمل شهادات الضحايا وآلامهم. حول العالم، تتحول بعض هذه السجون إلى متاحف تروي قصص الظلم، وتصبح أدوات لتوعية الأجيال بمخاطر الاستبداد. ألمانيا وإسبانيا نموذجان بارزان في هذا السياق، حيث حوّلتا سجونًا رمزية إلى فضاءات للذاكرة، تشابهًا مع ما يُمكن أن يحدث لسجن صيدنايا السوري لو توفرت الإرادة السياسية.
ألمانيا من جحيم “الشتازي” إلى متاحف الحقيقة
- سجن هوهنشونهاوزن (برلين): التاريخ الأسود كان المقر السري لجهاز أمن الدولة (شتازي) في ألمانيا الشرقية، حيث عُذّب آلاف المعارضين بين 1951 و1989، فتحول إلى نصب تذكاري بعد سقوط الجدار، حوّل الناجون السجن إلى متحف عام 1994. اليوم، تُقدّم جولات بإشراف سجناء سابقين، تروي تفاصيل التعذيب النفسي، مثل العزل في زنازين مظلمة لأشهر، وتُعرض أدوات المراقبة التي استخدمها النظام لتحطيم الروح قبل الجسد.
- معسكر زاكسنهاوزن (أورانينبورغ): كان رمز الإبادة النازية وشهد إبادة عشرات الآلاف بين 1936 و1945، معظمهم من اليهود والمعارضين. أصبح متحف للإنذار الدائم: يُعد اليوم جزءًا من شبكة التذكير بالمحرقة، مع معارض تفاعلية تُظهر كيف حوّل النازيون السجون إلى آلات موت. الزائر يسمع أصوات الناجين عبر سماعات، وكأن الجدران ما زالت تئنّ.
أما إسبانيا: مواجهة شبح فرانكو عبر الذاكرة
- قلعة مونتجويك (برشلونة): من قلعة عسكرية إلى سجن دموي خلال حكم فرانكو (1939–1975)، سُجن فيه آلاف الجمهوريين، وأُعدم المئات رميًا بالرصاص. ومتحف الذاكرة الديمقراطية افتُتح عام 2007، يعرض صور الضحايا الشخصية، ورسائلهم الأخيرة لأحبائهم، مع تركيز على ضرورة “عدم النسيان” في مجتمع ما يزال منقسمًا حول إرث الديكتاتورية.
- سجن كارابانشيل (مدريد): أيقونة القمع الفرانكوي الذب شهد تعذيبًا منهجيًا للمعارضين حتى إغلاقه عام 1998. صراع الذاكرة vs النسيان رغم هدم أجزاء منه، حوّل الناشطون قبو السجن إلى “مركز ثقافي” عام 2008، تُنظم فيه معارض فنية تستلهم قصص السجناء، كنوع من المقاومة الثقافية ضد محو التاريخ.
- سجن برغش (إقليم الباسك): “سجن المثقفين” خلال السبعينيات، احتجز النظام عشرات المثقفين المناهضين للفرانكوية. ليصبح فيما بعد”فضاء للحوار”: تحوّل جزء منه إلى متحف يعقد ندوات عن “التسامح”، ويوثق كيفية استخدام السجون سياسيًّا لسحق الهُويات المحلية.
سوريا وسجن صيدنايا: هل من أمل في تحوّل مماثل؟
بينما نجحت ألمانيا وإسبانيا في تحويل سجونهم إلى أدوات لمحاربة النسيان، يظل مصير سجن صيدنايا الذي يُعتبر أحد أكثر السجون وحشية في القرن الـ21 معلقًا، بسبب الإهمال وانعدام المسؤولية. لكن دروس التاريخ تُظهر، أن التحوّل يتطلب إرادة سياسية تبنت ألمانيا سياسات صارمة لمحاكمة مجرمي “الشتازي”، بينما أقرت إسبانيا “قانون الذاكرة التاريخية” (2007) لتعويض ضحايا فرانكو. الذاكرة سلاح ضد التكرار متاحف مثل “هوهنشونهاوزن” لا تُكرّم الضحايا فحسب، بل تُعلّم الزائرين كيفية كشف علامات الاستبداد المبكرة. والصراع حول الرواية جزء من العلاج الجدل الإسباني حول متحف “كارابانشيل” يثبت أن الاعتراف بالتاريخ عملية مؤلمة، لكنها ضرورية.
ختاما: لا تبيعوا دماءنا.. فالتاريخ لا يُشترى
السجون التي تتحول إلى متاحف ليست أماكن للموتى، بل للأحياء الذين يرفضون أن تموت الحقيقة و تُسرق كرامتهم مرتين: مرةً تحت التعذيب، ومرةً تحت شعارات الإعلانات. ألمانيا وإسبانيا تعلماننا أن الاعتراف بالجرائم بداية العدالة، أما الصمت فيصير تواطؤًا. ربما يأتي يومٌ تُفتح فيه الأبواب، لا لتصير سوقًا للدعاية، بل لتروي للعالم أن الظلم سقط، وأن الحقيقة انتصرت. لكن هذا اليوم لن يولد دون خطواتٍ جريئة محاكمة الجناة، حماية المواقع، وإشراك الضحايا في كتابة تاريخهم. وربما يأتي اليوم الذي يصبح فيه سجن صيدنايا متْحفا، ليسرد للعالم أن الظلم لم ينتصر.
عذراً التعليقات مغلقة