تشكّل إدلب لحظة تحدٍّ حقيقية، ليس للفريق الذي يريد استهدافها وحسب، وإنما أيضاً للمعارضة السورية التي عليها اجتراح أسلوب إدارة خلاق، للاستفادة من الزخم الذي وفره الحراك الشعبي الكبير، بعد خروج المظاهرات الحاشدة، واعتبرها كثيرون بمثابة تصويتٍ لصالح الثورة في مواجهة دعاية روسيا، وتابعها بشار الأسد، من أن المدنيين مختطفون في إدلب، وأن الناس ملّت الثورة، وتريد عودة نظام الأسد.
اعتادت المعارضة، أخيرا، الاكتفاء بالبكاء والتفجّع، وهي تشاهد شريط النكبة السورية، من سقوط للمناطق بيد نظام الأسد إلى عمليات التقتيل الرهيبة، وليس انتهاءً بمشهد الحافلات الخضر. وأزعم أن المعارضة، وخصوصا السياسية، استسهلت هذا الأمر، بل وتآلفت معه إلى حد ما، وربما كان صعباً في بدايته، عند سقوط حلب، لكنه تاليا أصبح سلساً، ويمكن التعامل معه عبر تغريدةٍ، أو بيانٍ يشجُب ويندّد.
التحدي الذي تطرحه إدلب اليوم على المعارضة هو جعلها نقطة انطلاقٍ نحو بداية جديدة، بدلا من أن تكون نهايةً للثورة على نظام الأسد، على ما بدأ العالم يهيئ نفسه له، وراحت المعارضة الخارجية تجهّز نفسها للتعامل مع هذا القدر الذي لا رادّ له، وبالتالي لم تعد تهتم سوى للحديث عن الدستور، وجولات دي ميستورا وتصريحاته.
في التقييم الواقعي، يتوجب التفريق بين السقف العالي لطموحات المتظاهرين الذين طالبوا بإسقاط النظام وتعديل مسار العملية السياسية بالكامل وما يمكن تحقيقه بالفعل، لكن هذا يعد مؤشّراً على مدى فهم الجماهير اللعبة السياسية القائمة على رفع سقف التفاوض إلى درجة عالية، للحصول على نتائج مقبولة، وإبراز جدّية البيئة الحاضنة للثورة على تحدّي تهديدات الخصم واستعدادها للصمود في مواجهته.
وفي التقييم الواقعي أيضاً، استفادت إدلب من جغرافيتها الملاصقة لتركيا، وأن أمنها مرتبط بدرجة كبيرة بالأمن القومي التركي. ولهذا السبب، جنّدت أنقرة مواردها الدبلوماسية والعسكرية والإعلامية، لتفنيد ذرائع الهجوم الذي كانت تعد له روسيا لسحق الثورة في إدلب، واستطاعت، عبر اتفاق سوتشي، تفكيك جبهة القوى المتربّصة بإدلب، ولو إلى حين، كما أنها وفّرت البيئة المناسبة لحلٍّ يضمن حماية إدلب وسكانها، ويمكن تطويره إلى مقاربةٍ للحل السياسي في سورية.
لكن على المعارضة أن تعي أن تركيا، على الرغم من وجاهة حججها في البعد الإنساني لموضوع إدلب، وعلى الرغم من مكانتها لدى روسيا التي تراهن على إخراجها من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إلا أن موقفا متماسكا من المعارضة، المدعومة شعبياً، سيشكل عنصر قوة ودعم للموقف التركي، والعكس صحيح، بمعنى أن تقاعس المعارضة وإحباط الشارع الثائر يزيد العبء على تركيا، ويدفعها إلى تقديم تنازلاتٍ ما، وقد آن الأوان للمعارضة، لتدرك أن مسألة توفر البدائل السياسية والإدارية باتت من أهم شروط عملية التغيير السياسي الذي يطالب به السوريون.
تملك المعارضة في إدلب مزايا لم تتوفر لها في مناطق أخرى، يمكن الاستفادة منها لتغيير المعادلة الراهنة في سورية، والقائمة على استسلام المعارضة بدون شرط أو قيد، واستعادة سلطة الأسد على جميع المناطق السورية. تستطيع إدلب بالفعل كسر هذه المعادلة، ودفع روسيا إلى مقاربةٍ جديدة، أقل جوْراً بحق السوريين، وتنطوي على أملٍ بتحقيق بعض أهداف الثورة.
في إدلب مجتمع مدني حقيقي، على الرغم من محاولات جبهة النصرة، وبعض الفصائل، تهميش هذه الحقيقة، وقمع تمظهرات هذا المجتمع، إلا أنه ناضل بقوّة في سبيل البقاء، وتراكمت، عبر سنوات الثورة، خبراتٌ هائلةٌ لدى منظمات تطوعية وإغاثية وإعلامية، وصارت تمتلك القدرة على الفعل، وإيصال صوتها إلى الخارج، في حين أن ذلك لم يكن متوفراً في أغلب مناطق الثورة، بعد أن طغى العسكري على المدني، وهجرت الكوادر المدنية، واختفت نهائيا في بعض المناطق.
تستطيع المعارضة الاستفادة من هذا المعطى، عبر إبراز الجانب المدني الذي بات يتخذ بالفعل طابعاً مؤسساتياً، ويلبّي المعايير الدولية في التنظيم والإدارة، وهو على صلةٍ بمنظماتٍ حقوقيةٍ وإغاثية مؤثرة في الغرب، وهذا يمنح المعارضة مساحة جيدة لطرح قضية إدلب بوصفها قضية سورية المصغّرة، والتي تستوجب حلولاً سياسية، وليست عسكرية، وإجبار روسيا على هذا المسار، ولو بعد طول مناورةٍ وتهرّب منها.
وليس الأمر مستحيلا، على ما يحاول المحبَطون ( بفتح الباء) إشاعته، فمن لديه عينان ويقرأ المشهد الدولي جيداً، يكتشف إمكانية تحقّق ذلك، فليس خافياً أنه باتت لدى روسيا، على أبواب إدلب، حساباتٌ معقدة، تختلف عنها في الفترة السابقة، فهي تريد الفوز بحل سياسي يشرعن وجودها ويقبله الغرب، ذلك أن روسيا وجدت نفسها أمام بلدٍ محطّمٍ لا يمكنها الاستفادة من نصرٍ قد تحقّقه على جثة سورية، وما لم تستطع إقناع الغرب والدول العربية بالمساهمة في إعادة الإعمار، تتحول الفرص إلى تحدّيات، وستصبح سورية مقبرةً للحلم الروسي في استعادة المكانة الدولية المفقودة.
معلومٌ أن روسيا تصوّر حربها على إدلب بأنها ضد المنظمات الإرهابية، مهمّشة حقيقة وجود حوالي أربعة ملايين مدني يعيشون حياة طبيعية، وهذا يستوجب من المعارضة استنفارا كاملا لطاقاتها، لتفنيد الرواية الروسية، وإبراز البعد المدني في قضية إدلب، وتحويل إدلب إلى عاصمة جمهورية الثورة السورية بكل معنى الكلمة، وما يتطلبه ذلك من دخول الفعاليات السياسية والإعلامية والأطر المختلفة إلى إدلب واتخاذها مقراً لنشاطها وعملها. لقد مهدت جماهير إدلب الطريق للمعارضة للقيام بخطواتٍ إيجابية لصالح الثورة السورية، والكرة الآن في ملعب المعارضة، فكيف ستكون استجابتها؟
عذراً التعليقات مغلقة