كنت قد انتهيت في ختام مقالي الأخير في موقع “حرية برس” الذي حمل عنوان “اليسار والثورة السورية” إلى نتيجة مفادها أن هناك أزمة فكر في الإيديولوجيا بشكل عام، فاليسار الدولي مرتبط مع الأحزاب الشيوعية التابعة لنظام الأسد، والتي ارتبطت مصالح قياداتها القذرة مع هذا النظام المجرم، وبررت عمالتها وانحيازها للنظام بأنه معادٍ للإمبريالية الغربية عموماً والأمريكية خصوصاً، واستطاعت إقناع اليسار العالمي الذي يعاني من أزمة فكر بهذه الفكرة، وجاء التطرف الذي غذاه النظام وقوى الإسلام السياسي التي حسبت نفسها على الثورة وسيطرت على مفاصل العمل السياسي والعسكري، بالإضافة للدول ذات المصلحة بإفشال الثورة ونزع الصفة الوطنية عنها، وإلصاق طابع الإسلامية عليها، لتؤكد أنه نظام يقارع الرجعية وقوى الإرهاب.
وقلت أنه يجب علينا كيساريين نؤمن بالعدالة الاجتماعية وبالديمقراطية وحقوق الإنسان أن نفعل طاقاتنا ونزيد التعاون بيننا من أجل مواجهة جملة من الاستحقاقات المهمة التي تواجهنا حالياً كصعود اليمين المتطرف في أوروبا وانتشار الأفكار الدينية والمذهبية والقومية المتطرفة في بلادنا.
في الفكر نشأ مصطلح اليسار نتيجة اصطفاف نواب الجمعية الوطنية الفرنسية قبيل الثورة فيها، فقد جلس بجهة اليسار ممثلو الطبقة الثالثة التي تتبنى أفكار المساواة بين المواطنين، وضرورة إلغاء امتيازات الإقطاع، وطبقة رجال الدين، وناصروا التحول من الملكية إلى الجمهورية، ودافعوا عن الحريّة الفكريّة وحريّة التعبير، ثم تحول المصطلح ليطلق على أيديولوجيات ورؤى حزبية، فأصبح يطلق لفظ يسار على الأحزاب التي تتبنى الفكر الماركسي، وحتى بعض الأحزاب القومية تدثرت تحت عباءة اليسار، وأضافت صفة الاشتراكية على اسمها، فأصبح لدينا حزب البعث العربي “الاشتراكي” وأصبح لدينا حزب الاتحاد “الاشتراكي” وغيرهما.
في سوريا وجد أول حزب شيوعي منذ عام 1924 وفاز أمينه العام خالد بكداش في عام 1954 بالانتخابات النيابية عن مدينة دمشق، وأصبح أول نائب برلماني شيوعي في العالم العربي.
باستثناء حزب العمل الشيوعي وحزب العمال الثوري خرجت كل الأحزاب الشيوعية في سوريا من رحم الحزب الأم “الحزب الشيوعي السوري” وكان أول انشقاق في الحزب بتاريخ 3 نيسان 1972 حيث انشقَّ ثلاثة من أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري على خلفية تحالفه مع نظام حافظ الأسد، ليتحول الحزب إلى حزبين، الأول موالي للسلطة حافظ على الاسم وحزب معارض للنظام حافظ على نفس الاسم مع إضافة لاحقة “المكتب السياسي” وأصبح اسمه “الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي”، ثم توالت الانشقاقات مع الحفاظ على الاسم، حتى أصبح المرء يختلط عليه بسبب أسماءها.
تحالفت الأحزاب الشيوعية مع سلطة حافظ الأسد وابنه بشار، في “جبهة وطنية تقدمية” بذريعة تقديم المهمة الوطنية “معاداة الإمبريالية الغربية والأمريكية وتحرير فلسطين” على المهمة الاجتماعية الطبقية، وغضت تلك الأحزاب النظر عن سياسات النظام الأسدي في القمع والتنكيل بالمعارضين له وعن سياساته الاقتصادية التي شكلت طبقة مافيوية نهبت البلد، وتماهت مع رأس المال العالمي، وتحالفت تلك المافيا مع رأس المال التركي والخليجي، وأصبح معيار تراكم الثروة هو القرب من السلطة، وشاركت الأحزاب الشيوعية الرسمية المتحالفة مع السلطة بالفتات الذي تركه لها نظام الأسد كنواب ووزراء ومدراء عاميين وخلافه، وقدمت انتقادات طفيفة لسياسة النظام الاقتصادية لم تتعدَ الانتقادات الشكلية، بينما دفعت الأحزاب التي عارضت نظام الأسد ثمناً غالياً، وهذا شأن جميع الأحزاب الأخرى التي عارضت النظام الأسدي، ووجد نظام حافظ الأسد في التحالف بين الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي مع الإخوان المسلمين الذي كان يخوض معهم صراعاً عسكرياً خلال حقبة الثمانينات فرصة ذهبية لتصفية كل القوى المنظمة – حزبية كانت أم مدنية كالنقابات والجمعيات – التي عارضته أو يمكن أن يشكل تنظيمها تهديداً لنظامه، وهكذا أفرغ الساحة السياسية السورية، وجمد تطور المجتمع، واستطاع أن يهيمن على كامل حركته، وأصبح مجرد تداول نشرة سياسية معارضة مدعاة للإعدام أو السجن الطويل.
عذراً التعليقات مغلقة