تتعامل الأنظمة السياسية في العالم الثالث مع بطولة كأس العالم لكرة القدم بخلاف ما تتعامل معها بقية أنظمة العالم الأخرى، فالحدث لا يدخل ضمن حسابات تلك الأنظمة فترةً ترفيهيةً حماسية، تعيشها الشعوب كل أربع سنوات مرّة، وتشكّل فرصةً للتنافس بين الأمم، وتعريف العالم بثقافة الدول المشاركة وقيمها من خلال الجماهير المرافقة للفرق القومية وهتافاتها وشعاراتها ورقصاتها، وحتى ردة فعلتها تجاه الربح والخسارة.
ليس بهذه السلاسة، تأخذ الأنظمة الديكتاتورية والقمعية بطولة كأس العالم، وهي التي تتعاطى مع كل حدث في العالم على أنه مؤامرة تحيكها الرأسمالية الغربية، وربما الماسونية العالمية، لا بد أنها في شهر البطولة تقيم غرفة عمليات مشتركة بين كل أجهزتها، ليس بهدف دراسة التأثيرات التي قد تنتجها البطولة عليها، وإنما دراسة الاستثمارات والتوظيفات السياسية الممكنة في هذه المناسبة.
وحتى لو لم تكن الفرق القومية للدول التي تحكمها هذه الأنظمة مشاركةً في البطولة، فإنها أيضاً تشكّل فرصة للاستثمار، فغالبا ما تكون الجماهير مستغرقةً إلى درجة الدوخان في أخبار الكرة ونجومها، وتشجيعها هذا الفريق أو ذاك، وتتراجع، على وقع هذه الأوضاع، القضايا المحلية وهموم الناس ومشكلاتهم مع السلطات، والتي تبدو بمثابة منغصّاتٍ لا يرغب أحد في جعلها تنكد حلم العيش في سحر البطولة والنشوة التي تنشرها. أما إذا كان الفريق القومي للدولة التي يحكمها النظام القمعي مشاركا في البطولة، فذلك مدعاة للخوف والحذر من خطرٍ ما قادم على الشعب المسكين الذي سيدفع ثمن فرحه بوصول فريق بلاده إلى البطولة.
بداية، يتعامل النظام القمعي مع الأمر بوصفه إنجازاً سياسياً من إنجازاته الكثيرة، وعطاءً يمنحه لشعبه الذي ما كان له أن يحلم بتحقيق هذا المكسب، لولا رعاية الزعيم الحاكم للرياضة وكرة القدم في بلده، وأن ما حصل ليس سوى انعكاس بسيط لإستراتيجياته الإدارية في البلاد وحكمته، وبالتالي هذا مؤشر على أن معارضيه على خطأ وتجنٍّ وفجور، فكيف يكون طاغيةً وفاسدا وتبعيا، وكل الأوصاف التي غالباً ما تكيلها المعارضة له، وهو يصنع هذه الإنجازات الخارقة؟ ثم أليس اللاعبون هم أولاد الزعيم، والذي بفضل بركته أولاً، وسحر ابتسامته ثانياً، تشكّلت عزيمة هؤلاء، وتفجر إلهامهم للوصول إلى هذه النتيجة (الوصول إلى المنافسة على البطولة) التي هي بمثابة اجتراح عظيم حقّقه شعبٌ غلبان، بفضل الحالة الاستثنائية التي يعيشها الشعب في ظل وجود سيادة الزعيم؟
في مرحلة ثانية، يذهب النظام القمعي، وخصوصا في البلدان التي تعاني من أزمات اقتصادية، إلى تدفيع الشعب ثمن هذا “الإنجاز”، تطبيقاً للمثل “الغاوي ينقّط بطاقيتو”، فالشعب الذي يريد التباهي بنفسه أمام العالم، ويحصل على ميزة تسليط الضوء عليه من شعوب الأرض كلها، لا يضرّه إن تنازل للنظام الحاكم عن أشياء صغيرة هنا وهناك، ولن تؤثر عليه زيادة في بعض اسعار السلع أو الخدمات. ومن المعيب في ظل العرس القومي الذي تعيشه البلاد أن يأتي أحدٌ، ويدقق على تفاصيل فارغة.
وتقوم الأنظمة القمعية التي تشارك فرقها بالبطولة على إحداث مناخٍ تعبوي طوال الفترة التي تسبق افتتاح البطولة، حيث تسيل بحارٌ من الحبر في تدبيج المقالات الحماسية في الصحف القومية، وتنشر يوميا عشرات التحليلات، بأقلام اختصاصين وغيرهم، فالمناسبة قومية وتستوعب الجميع، كما يتم صناعة عشرات البرامج التلفزيونية والإذاعية التي تستقطب النجوم.
وفوز منتخبات هذه البلاد في مباراة مع أي فريق، أو تعادلها مع فريق آخر، هو إعلان ولادة جديدة لهذا الشعب تحت حكم الزعيم القائد، وفرصة لتزويد ذخيرته في مواجهة محكوميه لسنوات مقبلة، فبالإضافة إلى أدواته البوليسية والإعلامية، تأتيه حادثة الفوز أو التعادل فائض إخضاع جديد للشعب. أما الخسارة إن حصلت، وهي تحصل غالباً، خصوصا للمنتخبات العربية، فأيضاً يمكن استثمارها في هذا السياق، ولن تؤثر كثيرا على المخطط الذي جرى تصميمه مسبقا لدعم سلطة النظام والزعيم، ذلك أن المشاركة في البطولة وحدها إنجاز مهم، ورفع علم البلد وتلاوة النشيد الوطني على مرأى من العالم تكفي لجعل الخسارة غير ذات أهمية، ولا بد من استقبال الزعيم للأبطال العائدين، بعد أن رفعوا رأس الشعب والبلد عالياً.
تبحث الأنظمة القمعية عن أي مناسبةٍ أو حدثٍ لاستثماره في تكريس سلطاتها، وإلهاء الشعوب عنها، وسحق معارضيها بدون رحمة، وتشكّل بطولة كأس العالم فرصةً مثالية في هذا السياق، فهي بالإضافة إلى إشغالها الشعوب بشكلٍ يندر تحقّقه في أي مناسبة أو حدث آخر، فإنها، وفي حالة مشاركة الفريق القومي، تشكّل فرصةً لتحقيق إجماع وطني تام، يصعب تحقّقه أيضا في الظروف العادية. وتحت قبة هذا الإجماع، تدسّ الأنظمة القمعية أفاعيها السامة المخبأة في الأدراج، بانتظار الفرصة المناسبة.
عذراً التعليقات مغلقة