على بهجتهم فيه، ومحاولتهم إظهار فرحٍ حتى لو كان مستعاراً أو مصطنعا، كان السوريون في سابق عهدهم يستفتحون عيدهم بزيارة قبور موتاهم، يروون بالدمع والماء حدائق ذكرياتهم، ويصلون حبل الودّ مع من مضوا، مجددين عهد الذكرى والبقاء على الوفاء، أما في عهدهم الجديد بعد الثورة، فقد صارت زيارة قبور الأحبة هي العيد كلّه، ووصل عهدهم وودّهم وتخليد ذكراهم هي نهاية الغاية وتمام الرجاء.
أما الآن، وقد أزف عيد جديد، فلا يكاد السوري يجد حبيباً أو قريباً أو ذا رحم حيٍّ فيعايده، ولا تسعفه الحدود ونقاط المراقبة والفصل لزيارة ميت والبكاء على قبر..
حتى البكاء على القبور صار حلماً سورياً.. ولربما يقول قائل إن البكاء يصحُّ من بعد، فتجيب أمهات الشهداء: بل يزيد القلب حرقة ويجدد الموت حتى كأنه موت جديد..
غرباء شهداؤنا وموتانا، ويتامى، لا أهل لقبورهم المهجورة المتصحرة، ولا نبتة تؤنس وحشة ذلك التراب الذي بدا وكأنه يئن من شدة العطش!..
قبور في الريحانية وكلس وعنتاب وأورفا وغيرها من مدن تركيا، لغرباء سوريين.. دفنهم ذووهم وهاجروا.. صارت القبور لحوداً لأرقام، لا أهل لها، ولا سقيا إلا ما تجود به عين السماء، أما الدعوات عن بعد، فقيل إنها أحيانا تتجمد في الطرقات الباردة أو لربما يضبطها حرس الحدود، أو تضلّ..
وثمة قبور تعيش عيدها الأول في الغربة، جنوبي دمشق وفي غوطتها وشمال حمص وشرق إدلب وحماة، حيث نزح البكاؤون وزارعو الريحان، واقتُلعوا من ترابهم، ليعانوا قسوة المخيمات ويمضون عيدهم الأول بلا جزء من أرواحهم دفنوه هناك.. وكم ستتألم أرواحهم حين يعلمون أن قبور الأحبة نُبشت، وأهيل عليها الحقد بدل الماء، والشتائم بدل الدعوات!..
وفي إرث السوري وعجينته، أن تترك مالاً وراءك أو داراً أو متاعاً.. فإن ذلك فَقْدٌ يستوجب الحنين، أما أن تترك قبر حبيب، فذلك هو الفقْدُ كله، والحسرة المحمولة إلى القبر، إذ أنَّ الأمان –كل الأمان- يكون بمجاورة الفقيد وحراسة موته والذود عن حرمته.
مطمئنةٌ اليومَ أمٌّ باتت قريبة من قبر ابنها الشهيد، تغسل بالدعوات قتامة الوحشة، وتسكب الرحمة على تراب خصيب، ومكلومةٌ أمٌّ باتت عينها لا ترقب قبر حبيب ولا تحظى بسكب دمع على ترابه ليعشب.. ويتيمة هي قبورنا نحن السوريين.. لا عين تبكي ولا قلب يحزن.. إلا من مكان سحيق..
عذراً التعليقات مغلقة