عيون ترحل كل يوم إلى وطنها، ذلك الوطن الذي تخلى عن أهله ونصب العداة خيامهم على ظهره، من الجنوب إلى الشمال ومن الغرب إلى الشرق بات الوطن مسروقاً يحيط به السواد من كل جانب. تاه الشعب والحجر، وقطع خيط الحياة الأبيض الذي كان صلة الوصل بين شمس المغيب وبزوغ الفجر، جفت ينابيع الدماء في جسد الوطن الذي أنهكته الحرب العمياء، وكان للموت حصة الأسد من الحياة.
من ريف دمشق انطلقت قوافل المأساة الكبيرة تنشد حياة صعبة في الشمال، علّها تجد الطريق الذي أضاعته على ضفاف بردى فوهات البنادق وقذائف المدفعية، بشرٌ كثر تركوا مدنهم وفضلوا الحياة على الموت بين كفي وطنهم الذي لعب دور الجزار بمشاركة المجرم. آلاف الأسر من الغوطة بلد الخيرات وصلت إلى إدلب هائمة على وجوهها، تبحث عن مكان مؤقت للنوم والراحة، ومصيرهم على كف عفريت، فهم بحاجة إلى الحياة كلها ليبقوا على قيد الحياة. ارتجفت أضلع أهل إدلب وانشق قمر معرة النعمان فرحاً بقدوم أهل غوطة الخير، انتشرت بسمات الفرح على شفاه الناس كلهم، حتى مهجرو الغوطة حسبوا أنفسهم في سقبا وعربين وحمورية، وأحاط بهم حنان الخضراء ومنحهم إكسير الحياة الذي فقدوه على الطريق.
في ظل الوضع الدولي الراهن الذي جعل من إدلب ملتقى لكل السوريين من تدمر ودير الزور إلى حلب وحماه وحمص بات من الضروري وضع إدلب على رأس المباحثات الدولية الجادة، فمن محافظة صغيرة جعلها آل الأسد منسية وحرموها أبسط حقوقها إلى محافظة احتضنت سوريا كلها وفرضت على العالم كله أن يتحدث بها، فمصير الملايين فيها بات مرهوناً بما ستقوم به أمريكا وحلفاؤها ضد ماذا سيقوم به الروس وحلفاؤهم، فإما الحرب بالوكالة أو الحرب الحقيقية أو الحل الذي قد يناسب أحداً.
مهما كان الحل في إدلب فسيكون غير مرض لطرف واحد على الأقل من الأطراف الثالثة “أمريكا وروسيا والشعب”، فلا وضع إدلب تحت الوصاية التركية سيكون كفيلاً للشعب بأن يبقى بعيداً عن ويلات النظام والروس، وغوطة دمشق وريف حمص الشمالي أكبر دليل حيث كانا من ضمن اتفاق استانة لخفض التصعيد، وهجرتهما روسيا، كذلك أن يسيطر النظام على إدلب فلن يرضي هذ الشعب وتركيا، لأن حرب تطهير عرقية ستكون في إدلب، فهل يكون الحل بأن تكون إدلب هي سوريا؟ وربما هو الأقرب للتنفيذ من حيث المعطيات على الأرض، فكل السوريين باتوا يعيشون في إدلب مع عوائلهم وسيكون من الصعب أو المستحيل أن يعودوا إلى محافظاتهم وبيوتهم التي سرقها منهم النظام. لذلك لابدّ من وضع النقاط على الحروف وكف يد الروس عن قصف إدلب وتدميرها، فهي مؤهلة للحياة أكثر من موسكو نفسها، وسكانها باتوا يقولون عنها “الوطن” الذي عوض وطناً.
إدلب بركان خامد توقده شرارة صغيرة وناره كبيرة قد تحرق بلدان بأكملها، وتكون سبباً بحدوث انفجار للوضع العالمي، فقرابة 4 ملايين نسمة لن يسمحوا للعالم بأن يقتلهم مرتين، بل ستكون هناك قنبلة كبيرة صمامها بيد المجتمع الدولي إن شاء سحبه وفجر المكان وإن شاء أبقى مسمار الأمان في مكانه، فالحياة لم تعد حكراً لأحد أكثر من أحد فإدلب الوطن ملتقى متاهة العالم، إن هو تاه فيها فتباً لمن ليس لديه بوصلة، إن هو وجد حلاً لها فهي الحياة لشعب مزقته مخالب الإنسانية الكاذبة.
لا يفضل أهل إدلب حلاً يجلب الدمار والموت لمن تبقى من السوريين على قيد الحياة، بل لو كان الحل يفصّل على مقاساهم لما كان بشار الأسد على رأس النظام ووالده ضُرب بالبندورة والأحذية في إدلب قبل عشرات السنين، لكن تكالب الأمم جعل مصير الأسد بين الراحات ومصير الشعب بين حجرين تحتهما قبر، فلعل الحفاظ على ما تبقى من حياة للسوريين يكون أفضل الموجود، والحسب بمن ماتوا في سبيل الثورة أنهم شهداء.
Sorry Comments are closed