هناك أشياء لا يمكن التعبير عنها إلا بالعناق.
“موريس ماترلينك”
من البديهي وأنتَ تعبر شارعاً مكتظاً بالسيارات والعابرين أن تلتفتَ يميناً وشمالاً بحركةٍ لا إرادية ــ غريزيّة ــ درأً لخطرٍ ما قد يصيبك؛ هكذا يصدمكَ راهيم حسّاوي بسرعة جنونية ويجرّكَ خلفه ضمن 169 صفحة تتحرّك عبرها شخصيات تعيش حيوات قلقة مليئة بإرهاصات وإشكاليات تعرّض مخيّلتكَ للتعرّق حتى !
رواية الباندا الصادرة حديثاً عن دار هاشيت انطوان/بيروت، تدور أحداثها بين دمشق وباريس وبيروت خلال فترة الستينات حتى نهاية التسعينات. كل شيءٍ مؤرّق في طياتها ومثير للتساؤل، حتى البُعد النفسي الذي لعبَ عليه الكاتب بين شخصية وأخرى.
هذه الرواية التي تُعتبر عالماً ضيّقاً وواسعاً في آن واحد من التناقضات السيكولوجيّة، توْقِع القارئ في شرك الانتباه إلى ذاتهِ حيناً، وحيناً آخر ترميه في اللامبالاة أمام حياةٍ تكاد تكون شبه خرافية!
ينسج الكاتب بمهارة عنكبوت حذق شخصيات الرواية التي تتحدّى بعضها البعض تارةً بتلاطفٍ، وأخرى بعنجهيةٍ مُبطّنة. وكأنه يقول لك: “أيها القارئ، لربما ستصدف بعد نصف ساعة في أي شارعٍ عمران التل مُشهراً مسدّسَ والده في وجهكَ، أو سوف تطرق بابكَ سارة الزين كي تسألكَ عنه”.
فعمران التل الذي صنع من “فريدة الأسعد” إنسانة أخرى ونجمة تحصد إعجاب الآخرين بشكل غريب دافعاً بها إلى وسطٍ يتجشّأ المثاليات والجوائز، كان بمقدورهِ أن يعيدها إلى مشغل الخياطة، أو إلى جانب زوجها المُقْعَد على كرسي متحرّك، بعد أن أخذت تتحاشاه وتتذرّع بانشغالها بالأعمال الإنسانية والاهتمام بجمعيّة “الغد الفريد” الخيريّة التي أسّسها هو بالأصل. فريدة كانت لديها رغبة جامحة بامتلاك كل بوصة من جسم عمران واحتكار حتى انفاسه! وهو يعرف تماماً أنها عبارة عن فقاعة صابون لكنها ــ تلمع ــ بفضله!
يشعر قارئ الرواية بأن شخصية عمران التل التي تتماهى بين العبث والغموض والعناد تميل إلى خيانة الحياة في أي لحظة ــ هاجس الانتحار ــ رغم إنجازاته الكبيرة ونجاحه في عمله كنجّار ماهر وصاحب ورشة نجارة معروفة.
عمران الذي يعيش مع عائلة مكوّنة من الأم رحاب وأخته جيداء وعمته سعاد، لا تجده يعير اهتماماً لهم بقدر ما يسعى لإثبات وجهةِ نظرِ أبيه المنتحر التي باتت وجهة نظرهِ.
وأيضاً هو لا ينفكّ بالتفكّر بما جرى لوالدهِ عاصم التل الذي مات منتحراً بمسدسه في ليلة شتائية داخل مكتبه الذي اشترته بعد أن بيعَ مرتين فنانة تشكيليّة اسمها “سارة الزين” التي ترسم كي لا تعلن معامل الألوان إفلاسها على حدِّ قولها. وهذه الأخيرة بسبب فضول عمران لمعرفة من استأجر مكتب أبيه عاصم، أصبحت تميل إليه بعد أن تعرّف عليها ذات مرة حين صعد إلى المكتب ليقتل فضوله ويرى تلك الأنثى التي تدور بينهما فيما بعد أحداث مليئة بالغواية والتحدّي.
بين أهمية جائزة ــ نوبل ــ وهاجس عمران وإصراره بأن يثبتَ للعالم أن هذه الجائزة لا يستحقها الكثيرون ممن حصلوا عليها حسب المذكرات التي خلّفها أبوه بعد انتحاره، تدور الرواية في فلك هذه النظرية التي يتبناها ويعمل عليها بدهاء صانعاً من إنسانة عادية لا تمتلك أية مقومات تؤهلها لنيل أي جائزة، شخصية ناجحة في المجتمع تتحدّث عنها وسائل إعلام عربية وأجنبية.
من أجواء الرواية:
“وكأنّ نوبل للسلام هي بمثابة ورقة الجوكر التي يحصل عليها لاعب الورق، وفي أغلب الأحيان يقوم أحد اللاعبين بسرقة ورقة الجوكر لتصبحَ بقية الأوراق من العجائز والشباب والبنات دون قيمة. ويستطيع هذا الجوكر أنْ يحلّ محلّ أي ورقة وكأنّه هو سيد الجميع والمثال الأعلى. وكأن الهدف من ورقة الجوكر إفساح الفرص لسرقته على أيدي اللاعبين، ولو لم يكن هذا الجوكر بين الأوراق لما فكّر أحد بسرقة شيء غير موجود في الأصل، هذا ما جاء في مخطوطات عاصم التل“.
وفي جانب آخر من الرواية، هنالك شخصيات تكتنف بالمغامرة واللهو مثل الفتاة الثلاثينية “كلودين” التي تنحدر من أصول لبنانية عاشت في باريس لتغادرها إلى بيروت وتتعرّف عن طريق موريس زوج أمّها على الدكتور عزّام جرّاح القلبية الشهير الذي تختلط لديه المشاعر تجاهها بين الفتاة المغناج ذات الجسد المغري والأنثى التي تهبه الاستمرار بالحياة.
تنتهي من قراءة “الباندا” وكأنك تريد معانقة شخصيات الرواية دفعةً واحدة مع الكاتب باستثناء عمران التل الذي لن يخرج من ذهنكَ ببساطة كلما ارتديتَ قميصاً أبيض.
Sorry Comments are closed