“توقفوا عن الانجرار وراء هدن الأسد المزيفة، بدلاً من التهليل لكل اتفاق وقف إطلاق نار جديد على أنه خطوة نحو السلام، يحتاج المجتمع الدولي إلى فهم أن هذه الاتفاقات عنصر مدمج مع الاستراتيجية العسكرية لنظام الأسد”. بهذه الكلمات بدأ الناشط السوري محمد غانم مقالاً له في معهد تشاثام هاوس البريطاني.
ويقول الكاتب: في الخامس من آذار دخلت شاحنات المساعدات التابعة للأمم المتحدة إلى منطقة تموت جوعاً خارج دمشق، وذلك لاختبار مدى التقيد بقرار مجلس الأمن الدولي الأخير لوقف إطلاق النار. حيث طالب القرار رقم 2401 بالوصول الكامل للمساعدات إلى داخل الغوطة الشرقية، وهي إحدى ضواحي العاصمة السورية التي ترزح تحت الحصار الذي فرضه الأسد منذ خمسة سنوات تقريباً، والتي شهدت أكثر من 1000 حالة وفاة في الأسابيع الأخيرة جرّاء الهجوم العنيف الذي شنته قوات النظام وروسيا. وقبل أن تصل قافلة المساعدة الإنسانية، قام رجال ميليشيات الأسد بأخذ الإمدادات الطبية منها. وبمجرد دخول القافلة، رفع النظام وتيرة القصف مما أسفر عن مقتل حوالي 90 مدنياً. وبعد مغادرة القافلة، شن النظام هجوماً كيميائياً آخر على الغوطة الشرقية. ضربت روسيا أهدافاً مدنية خلال عملية توزيع المساعدات الإنسانية، بما في ذلك قصف بالقنابل العنقودية بالقرب من عاملي الأمم المتحدة، مما أجبر القافلة على المغادرة بحسب بعض السكان المحليين.
ويضيف غانم: كما واصلت روسيا سياسة الأرض المحروقة في أماكن أخرى في الغوطة، مما سمح بتقدم قوات الأسد والمليشيات الإيرانية، وأسفر ذلك عن فرار الآلاف. وقد دفع هذا التصرف المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية “هيذر ناويرت” إلى التصريح بعد يومين “هناك الكثير بالنسبة لالتزام روسيا باتفاق وقف إطلاق النار .. لقد فشلت عملية أستانا”. إن عملية السلام الجارية في أستانا، والتي تدعو إلى إنشاء عدة مناطق خفض تصعيد بما في ذلك الغوطة، كانت النقطة المحورية للجهود الدبلوماسية في سوريا لأكثر من عام. ويمكن أن يُشير تصريح “ناويرت” إلى أمر مهم، وهو إدراك البيت الأبيض إلى أن هذه المناطق غير مجدية.لكن ذلك لوحده لا يكفي. فبدلاً من التهليل لكل اتفاق وقف إطلاق نار جديد على أنه خطوة نحو السلام عندما تكون شروطهم هي ذات الشروط التي تم سنّها لاتفاقات وقف إطلاق النار السابقة والتي أثبتت فشلها يجب أن يتم اعتبار اتفاقات وقف إطلاق النار الزائفة على أنها جزء لا يتجزأ من استراتيجية النظام العسكرية، وأنها جزء من الحل العسكري الذي يتبعه الأسد لإنهاء الصراع في سوريا.
ويشير إلى أنه في الوقت الذي تم فيه تهجير آخر المقيمين في مدينة حمص القديمة ضمن اتفاق محلي لوقف إطلاق النار عام 2014، أشاد منسق الأمم المتحدة للمساعدات “جون جينغ” بما اعتبره العديد من السوريين تطهيراً طائفياً بقوله أن ذلك دليل على ما يمكن فعله. وسرعان ما بدأ العديد من الأكاديميين ومحللي الدراسات الفكرية بالترويج لوقف إطلاق النار المحلي في المناطق التي تم تهجير السكان المحليين منها باعتبارها انتصاراً ونمط حياة قابل للتنفيذ.
ويذكّر قائلاً: في عام 2015، رفع مبعوث الأمم المتحدة الرهان من خلال جعل حلب، أكبر المدن السورية، مركزاً لمقترح “مناطق تجميد النزاع”، وهو الاقتراح الذي تم إصداره في عام 2016. وعلى الرغم من مذبحة حلب وتقلّد رئيس جديد للحكم، تضاعفت القوى الإقليمية بعد ذلك من خلال تبنّي عملية أستانا، التي دعت إلى سلسلة من “مناطق خفض التصعيد” غير متصلة ببعضها في جيوب المعارضة الأربعة الرئيسية. وكان يبدو أن الرئيس دونالد ترامب قد وافق على الخطة، معلناً في يوليو/ تموز: “في وقت مفاجئ، لن يتم إطلاق أي رصاصة في سوريا. وسيكون هذا أمراً رائعاً”. لكن ذلك لم يحدث.
ويشير غانم إلى أن الواقع المرعب في منطقة خفض التصعيد “الغوطة” يتصدر عناوين الأخبار الآن على غرار ما حدث في “منطقة تجميد النزاع” في حلب عام 2016. ويطرح سؤالاً: ما علاقة وقف إطلاق النار المحلي، مهما كان غير فعال، بالقتل في حلب أو الغوطة؟
وهنا يعتبر أن القضيتان ترتبطان ارتباطاً وثيقاً. ويقول: لقد استخدم الأسد وحلفاؤه وقف إطلاق النار المحلي، ومناطق خفض التصعيد ومناطق تجميد النزاع لزيادة معاناة المدنيين، وتنفيذ إعادة الهندسة الديمغرافية والتقدم العسكري. أولاً، يسمح وقف إطلاق النار المحلي لقوات النظام بالتعامل مع نقطة ضعف أساسية عانى منها منذ الاحتجاجات الأولى المؤيدة للديمقراطية: إن عدد قوات الأسد لا تكفي لنظام يحارب ثورة شعبية. وقد حلّ وقف إطلاق النار هذه المعضلة للأسد بتجميد القتال في مناطق محددة فقط، دون التأثير على الأخرى. مما يسمح للأسد بإعادة نشر قواته من مناطق وقف إطلاق النار، وتوسيعها في مناطق أخرى وشن هجمات عنيفة. لقد كانت مناطق خفض التصعيد مدمرة بشكل خاص لأنها سلسلة من وقف إطلاق النار المحلي غير المنقطع، مما يسمح للنظام بإعادة نشر المقاتلين من جميع أنحاء البلاد إلى موقع معين. إن أحد الأسباب وراء هجوم النظام على الغوطة هو أنه يضم نخبة للنظام من عناصر ميليشيا النمر من شمال سوريا، ومقاتلين قبليين موالين للنظام من شرق سوريا، ووحدات الفرقة الرابعة التي كانت في جنوب سوريا عندما بدأت مناطق خفض التصعيد.
والنقطة الثانية في نظر الكاتب، أنه غالباً ما يكون لإجراءات وقف إطلاق النار المحلية تأثير تصعيدي يُحكم الحصار، ويقلل من قدرات المعارضة على صد الاعتداءات في المستقبل. وذلك ينطبق على معظم فترات وقف إطلاق النار المحلية المتفق عليها قبل سقوط حلب في أواخر عام 2016. جرت العادة سابقاً أن توافق مراكز المعارضة المحاصرة من قبل النظام على وقف إطلاق النار بهدف تخفيف وطأة الحصار. ولكن اتفاق وقف النار الذي تم التوافق عليه نظرياً لم يمنح الجماعات المحاصرة أي فوائد، الأمر الذي كان يتيح للنظام تكثيف مطالبه بانتظار الهجوم النهائي.
وفي هذا السياق يذكر غانم أن ضاحية المعضمية في دمشق وقعت أحد أولى اتفاقات وقف إطلاق النار المحلية، بعد أن تم التضييق على السكان حتى باتوا يأكلون العشب للبقاء على قيد الحياة. في البداية، طالب النظام فقط بأن ترفع المعضمية علم النظام، لكنه رفع تدريجياً المطالب حتى تم إكراه المعارضة على مغادرة المراكز الحضرية بالكامل والتخلي عن الأسلحة الثقيلة. وبهذه الطريقة، أضعفت هدنة المعضمية تدريجياً المعارضة مع مرور الوقت، مما مكّن النظام من إعادة حصاره في عام 2015، قبل شن هجوم نهائي سيطر به على المدينة.
ويرى الكاتب أن معظم المناطق التي تراجع فيها النظام عن وقف إطلاق النار لتهجير السكان المحليين كانت تخضع لديناميات الحصار والتصعيد، بما في ذلك منطقة برزة في دمشق، وحي الوعر في حمص، وبلدة الزبداني ووادي بردى بالقرب من لبنان. ويؤثر ذلك في بعض الأحيان على المناطق المجاورة. ويذكر على سبيل المثال، أن وقف إطلاق النار والهجوم على الزبداني أدى مباشرة إلى الحصار المرعب لمضايا المجاورة. كما أتاح وقف إطلاق النار والاعتداء على المعضمية إمكانية تشريد داريا المجاورة في نهاية المطاف.
أما النقطة الثالثة، هي أن وﻗﻒ إﻃﻼق اﻟﻨﺎر اﻟﻤﺤﻠﻲ يعطّل اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ اﻟﻌﺎﻟﻤﻲ من خلال تقديم وهم بتحقيق تقدم ﻓﻲ ﻣﺎ هو في الواقع هجمات ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺪﻧﻴﻴﻦ. ويضيف: لقد نجح النظام في استغلال مقترح “مناطق تجميد النزاع” الذي طرحه دي ميستورا في حلب عام 2016 بقبول الاقتراح، لكنه أصر على أن تقدم الأمم المتحدة المساعدات فقط عبر طريق يسيطر عليه النظام، على الرغم من فتح طريق للمعارضة مؤخراً.
ويعتقد غانم أن موافقة الأمم المتحدة على هذا الطلب في مقابل وقف إطلاق النار سمحت للنظام بتعزيز حصاره، وبالتالي تحويل منطقة تجميد النزاع في حلب إلى نسخة ترعاها الأمم المتحدة من وقف إطلاق النار المحلي غير المتكافئ الذي تمت مناقشته أعلاه. وعلى غرار وقف إطلاق النار المحلي، لم تُنه منطقة تجميد النزاع في حلب الحصار أو توقف العنف، بدلاً من ذلك، مهدت الطريق بشكل خاص لخطة الحرب التي يعتمدها النظام والتي تتجلى بحملة عسكرية مكثفة تهدف لتحقيق انتصار سريع.
ويختتم الكاتب بالقول: لقد أظهر نظام الأسد مراراً وتكراراً أنه يعتبر اتفاقات وقف إطلاق النار كأدوات عسكرية لإخضاع المدنيين، وليس كخطوة نحو السلام. إن إسقاط المساعدات الانسانية جواً من شأنه أن يكسر حصار الأسد، ويمنعه بالتالي من أن يستنفذ الوقت ببساطة في إجاعة الناس وإجبارها على النزوح. لكن يجب على المجتمع الدولي أن يردع النظام عن الخيار العسكري في المقام الأول. إن وقف إطلاق النار في المستقبل بدون ذلك لا يتعدى كونه دعوة إلى استسلام السكان المدنيين، ولن يفضي إلا إلى حث الأسد وروسيا وإيران على مواصلة استراتيجيتهم الوحشية.
عذراً التعليقات مغلقة