

بعد موجة الانتقادات التي انهالت عليّ مؤخراً، قيل لي إنني “انقلبت” وصرت مع الحكومة، بعد أن كنت – في نظرهم – صحفياً وباحثاً سياسياً حيادياً ومتوازناً. لكن ما بين الصورة التي يرسمها البعض عني، وحقيقة موقفي، هناك تفاصيل لا بد من روايتها.
أولاً: انتصرت الثورة – والحمد لله – بفضل قادة هيأ الله لهم أسباب النصر، سبقوا غيرهم بالاجتهاد وحسن التقدير، ووضعونا جميعاً أمام مشهد الصدمة والمفاجأة.
ثانياً: انتهت مرحلة الثورة، ودخلنا مرحلة انتقالية معلومة للجميع، هدفها نقل البلاد من إرث عقودٍ من الحكم إلى برّ النجاة. هنا برزت قيادة تحمّلت مسؤولية ثقيلة، وحققت إنجازات في أشهر قليلة، أتحدى أي طرف آخر أن يحقق مثلها.
ثالثاً: تشكلت حكومة جديدة، وأُنجزت خطوات لسد الثغرات القانونية والتشريعية، وسُحبت الحجج من المجتمع الدولي، حتى تحقق توافق سياسي خارجي غير مسبوق، خصوصاً على صعيد السياسة الخارجية. جاء ذلك وسط سباق مع الزمن لملء الفراغ، لأن مخططات كثيرة كانت تُحاك لسورية، هدفها تقسيم المقسم وتفتيت المفتت، لكن تلك المشاريع أُفشلت بتعاون دولي وعربي رأى في استقرار سورية فرصة لمصالحه.
رابعاً: نعم، جاءت الأخطاء – خصوصاً في الملفات الداخلية كالأمن الداخلي والمجتمعي – لتفتح الباب أمام أصوات تصادمية، اختارت المواجهة بدل اللجوء إلى العمل السياسي الغائب حالياً، في وقت تركز فيه الجهود على بناء الدولة وتحقيق الحد الأدنى من الاستقرار والأمن، مع السعي إلى المحاسبة والعدالة الانتقالية. الأمن – في هذه المرحلة – هو مفتاح النجاة لسورية.
لكن ما حدث أن تيارات متطرفة وأطراف شاذة – من “قسد” إلى فلول النظام السابق وعصابات خارجة عن القانون – حاولت توسيع الشرخ بين الحكومة والشعب، مدفوعة بدول تعمل ليل نهار على التحريض وإشاعة الفوضى، بهدف جر البلاد إلى حرب أهلية تنتهي بالتقسيم وتلاشي الدولة. رافق ذلك حملات تخوين وهجمات إلكترونية ضخّت آلاف الأخبار الزائفة، أربكت صانعي القرار وزادت الأخطاء، خاصة مع تجاهل الخطر الإسرائيلي وأحلام الانفصال.
هذا ما انعكس على ملفات كالساحل والسويداء، حيث جاءت المعالجات غير مثالية، لكن المؤكد أن قيادة دمشق مصممة على المضي قدماً، والاستماع لصوت العقل، وعدم السماح لأطماع الخارج بأن تتحقق بعد كل هذه التضحيات التي قدّمها شعب صبر أربعة عشر عاماً.
صحيح أن عجلة التنمية والخدمات تباطأت بسبب أحداث السويداء، وأن الشرخ المجتمعي اتسع، ودخلنا أزمة صراع هويات، لكن ما يجري اليوم هو محاولة لاحتواء المشهد كاملاً، وتبني خطاب تهدئة وطني جامع، وإطلاق مبادرات لرأب الصدع.
خلاصة القول: لا شيء مثالي في سوريا، ولم ننتهِ بعد من إرث النظام السابق، ولم نبدأ فعلياً مرحلة التعافي، لأن بعض الشرائح الرافضة لحكومة دمشق لم تسلك طريق السياسة لتحقيق مطالبها، بل اختارت العبث والتحريض، وتحريك الصدام بين المكونات السورية. ميدانياً، هناك من تحالف مع فلول النظام السابق، واستقوى بالخارج، وإلكترونياً دشّن حملات لتشويه النصر الثوري وإسقاط الحكومة عبر منشورات على فيسبوك.
نعم، هناك أخطاء وخسارة لحاضنة مجتمعية بسبب خطاب التخوين العبثي والطائفي، لكن ما يغيب عن أصحاب هذا الخطاب هو أننا لا نملك خياراً سوى نجاح الحكومة، ومساندتها لعبور سوريا إلى بر الأمان. الفشل يعني فوضى بلا نهاية.
من يريد التغيير أو الحقوق أو المناصب، فليعلم أن معركته سياسية، لا عبر دعم العصابات، أو نشر الفوضى أو التخريب أو الاستقواء بالخارج. من وصلوا إلى دمشق ليسوا ملائكة، بل بشر يجتهدون، ويخطئون ويصيبون، كما يحدث في أي مرحلة تأسيسية لدولة خارجة من قاع الانهيار.
إن سوريا مقبلة على مرحلة تعددية حزبية، والباب مفتوح للجميع. أما المساس بالثوابت الوطنية التي تجمع السوريين، فلن يقبل بها أحد. لا للتقسيم، لا للخطاب الطائفي، لا للكراهية. سوريا لكل السوريين، والسويداء في قلوب السوريين، ولا تراجع عن هذه الثوابت السيادية مهما كان الثمن.