يبدو لافتاً تناقص عدد الرافضين لمؤتمر سوتشي المزمع عقده أواخر الشهر الجاري، ربطاً بخفوت دعوات مقاطعته، وتواتر التصريحات التي تنم عن رغبة، وإن لا تزال خجولة، للمشاركة فيه، ولا يغير هذه الحقيقة ما أعلن من تحفظات، يسميها البعض «اشتراطات» لحضور المؤتمر، كأولوية وقف قصف النظام وحلفائه وهجماتهم على إدلب والغوطة الشرقية، وكضرورة التزام موسكو بهدف للمؤتمر لا يتعارض مع مفاوضات جنيف والقرارات الدولية.
وإذا تجاوزنا، «المعارضة» التي وضعت منذ البداية بيضها في السلة الروسية، كمنصة موسكو وغيرها، والتي تأسرها التعبئة الأيديولوجية ضد الإمبريالية الأميركية وتتغنى بروسيا كوريث للاتحاد السوفياتي، نصير الشعوب المظلومة، وغافلة عن روسيا الجديدة الباحثة عن فرص لتغذية مصالحها ونفوذها في المنطقة، فإن المقصود هو المعارضة التي حملت لواء الثورة والتغيير الجذري، ودأبت على إدانة موسكو نتيجة دعمها للنظام وتدخلها العسكري لحمايته، لكنها بدأت تجتهد اليوم في ابتكار الذرائع والحجج لتسويغ مشاركتها في مؤتمر سوتشي، وتالياً لتمرير خطة موسكو الرامية الى شرعنة حضورها العسكري ونفوذها في البلاد، سياسياً.
تستند أكثر الذرائع انتشاراً، الى المبالغة في قراءة التباين بين روسيا وإيران حول المستقبل السوري، والقول بأن ما يحتم حضور مؤتمر سوتشي هو مسؤولية الاختيار بين أهون الشرين، بين مشروع الكرملين السياسي، بما يحمله من إعلانات حريصة على وحدة الوطن والدولة العلمانية، وبين طموح طهران إلحاق البلاد بعباءتها الدينية والمذهبية، ودليلهم بعض الخلافات التي تطورت بينهما في مسار تطبيق خطة خفض التصعيد، ثم الانتقادات المتواترة التي بدأت تظهر في مواقع وصحف إيرانية ضد موسكو على أنها استغلت تضحيات الإيرانيين لتمرير أهدافها ومصالحها الخاصة ولتحجيم نفوذ طهران في سورية بالتنسيق مع ألد أعدائها.
ليس ثمة قضية أنبل من الملف الإنساني كي يتوسله البعض للدفاع عن حضور مؤتمر سوتشي، ولسان حالهم يقول: لقد وصلت معاناة شعبنا إلى ذروتها وحان الوقت للتنازل سياسياً ومنح المسائل الإنسانية الأولوية، وأقل التنازلات إيلاماً الامتثال لخطة موسكو الأقرب والأقدر على تخفيف ما يكابده السوريون! ويعتقد هؤلاء أن حضورهم المؤتمر يمنحهم فرصة لتمرير بعض المطالب المتعلقة بكشف مصير المعتقلين والمفقودين والمغيبين قسرياً، وأن تأييد المعالجة السياسية، وإن بالأفق الروسي، يمكنه توفير جو آمن يشجع غالبية النازحين واللاجئين على العودة إلى بلداتهم وأراضيهم.
ويتساءل آخرون: ألا يستدعي دعم الحل السياسي، بعد فشل مفاوضات جنيف والعجز الدولي عن إنجاح الخطة الأممية لمعالجة الصراع السوري، حضور مؤتمر سوتشي والاستقواء بإرادة الكرملين لفرض الخيار السياسي ولو بحدوده الدنيا؟ ويستدركون: لم لا يجوز الاستقواء بموسكو لمحاصرة نظام سيرفض سوتشي لأسباب رفضه غير المعلن لجنيف نفسها؟ ومَن غير قيادة الكرملين يمكنها لجم عنجهية النظام وتطويعه في مسار الحل السياسي؟ ثم أية خيارات أخرى تملكها المعارضة في حال رفضت المؤتمر؟ هل من قوى دولية وعربية يمكنها الاعتماد عليها، أم ستبقى وحيدة ومحفوفة، كالعادة، بمزيد من الدعم اللفظي والوعود الخلبية.
هناك من يؤيد مؤتمر سوتشي لاعتقاده أن الخيار الروسي هو الخيار الوحيد المتاح للوقوف ضد إمارات اسلاموية إرهابية لا تهدد وحدة المجتمع والدولة فقط، بل مسار الحياة الإنسانية الطبيعية، وتالياً ضد جماعات مسلحة تملك بعض الأرض وتخضع لإملاءات خارجية ومستعدة للاستثمار في سوتشي مثلما استثمرت في اجتماعات الآستانة، لضمان استمرار وجودها ومشروعها الديني السلطوي.
وثمة آخرون يبررون ذهابهم إلى سوتشي بالترويج لنظرية ملء فراغ المشاركة وقطع الطريق على نوعية مرفوضة من الانتهازيين قد تستعين بهم موسكو بالتنسيق مع طهران والنظام، لإنجاح المؤتمر، أو لأنهم يعتقدون أن المشروع الروسي، إن حضروا المؤتمر أو لم يحضروه، سيسير على قدم وساق، في ظل توازنات القوى القائمة وطبيعة التدخلات الدولية، متوهمين القدرة على توظيف المشاركة لتوضيح صورتهم أمام العالم كمعارضة معتدلة ومحبذة للحل السياسي، تمهيداً لبناء نوع من التوافقات بين رؤيتهم للمستقبل السوري وبين ما قد يطرأ من تطورات على مواقف المجتمع الدولي.
والحال، لا نعرف إن كانت المعارضة السورية تصدق نفسها، حين تعتقد أن ما صنعه منطق الفتك والتنكيل وما خلفته سنوات الحرب يمكن أن يتحولا بلمسة «سوتشي» السحرية إلى سياسة وتسوية وسلام، أو حين تتوهم أن اعتدالها، الشكلي أو الفعلي، وإظهار حسن نياتها وسعيها، بأي ثمن، وراء الحل السياسي، يمكنهما أن يستدرا شفقة روسيا والمجتمع الدولي، ولا نعرف تالياً إن كانت تخدع نفسها حين تتوخى خلاص البلاد عبر اللعب على تناقضات أطراف دولية وإقليمية غارقة في الدم السوري، أو حين تتوهم أن روسيا، لأنها لا تريد الغرق في المستنقع السوري، تسعى جدياً إلى حل سياسي يلبي الحد الأدنى من مطالب السوريين، وليس إلى تأبيد الوضع القائم.
ألم يحن الوقت كي تعترف المعارضة السورية بحقيقة أن مستقبل البلاد بات مرتهناً لأهداف وحسابات خارجية لا تمت الى مصالح الشعب بصلة، والأمر لا يقف عند سوتشي أو عند أدوار طهران وموسكو وواشنطن العسكرية، وإنما يمتد ليشمل الدخول العسكري التركي الوزان في شمال البلاد؟ هل يفيد اليوم، أم تأخر الوقت كثيراً، كي تبادر المعارضة السورية إلى اعتراض مؤتمر سوتشي بفكرة مؤتمر وطني يمثل كل الفئات والشرائح المؤمنة بالتغيير الديموقراطي، أهم أغراضه توفير فرصة تمكن الحراك الشبابي المدني من بلورة نوع جديد من المعارضة قادر على كشف حقيقة سوتشي وطبيعة المشاركين فيه ممن لا يزالون يتفاخرون بصفة المعارضة بعد أن تخلوا عن أي تواصل حقيقي مع شعبهم وعن الشعارات التي ثار من أجلها، وتالياً على محاصرة المسارات المؤلمة التي تخطها قوى الثورة المضادة لوأد حلم السوريين في الحرية والكرامة!
Sorry Comments are closed