“بيروقراطية الشر”، هكذا أطلق المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي على الوحشية الممنهجة للاحتلال الإسرائيلي: حواجز الجيش على الطرقات، والاعتقالات الجماعية، وتفتيش المنازل، ونقل السكان قسريا، وزرع المستوطنين، والجدار المشؤوم، خدم أشرار وضعوا التفاصيل الدقيقة وأيدوها عبر السنوات وأتقنوا عملها، باعتبارهم حراسا لهذا السجن الأكبر على الأرض، ولن يُلغى هذا السجن إلا بخروج آخر هؤلاء الخدم من الخدمة.
عبر مقدمة ومدخل و12 فصلا يقدم المؤلف إيلان بابي -في كتابه هذا المعنون بـ: “أكبر سجن على الأرض.. تاريخ الأرض المحتلة”- تفاصيلَ تحول فلسطين إلى سجن عملاق، أُنشيء ليس بغرض الحفاظ على الاحتلال، بل استجابة عملية للمتطلبات الأيديولوجية للصهيونية. والحاجة إلى السيطرة على أكبر قدر ممكن من فلسطين التاريخية، وخلق مبدأ الأغلبية اليهودية.
وهذه المتطلبات هي التي أدت إلى التطهير العرقي لفلسطين عام 1948، ووصلت إلى السياسة التي تشكلت في 1967 وأصبحت المغذي الأول للأعمال الإسرائيلية التي تمارس اليوم.
تطهير متواصل
الفصل الأول من الكتاب يعرض خلفية سياسات 1967 وكونها تكملة للإستراتيجيات التي اعتمدتها الصهيونية منذ عام 1882، وخاصة في 1948. وفي القلب من ذلك الفصل، مسحٌ للفترة ما بين 1948 و1967 والسياسات التي اتُّبِعت بعد ذلك باعتبارها مراحل في مشروع استعماري مستمر، يهدف إلى تهويد فلسطين ونزع عروبتها.
في عام 67، يؤكد المؤلف أنه لم تكن هناك تهديدات جوهرية لإسرائيل، ولم تكن مناورات جمال عبد الناصر تختلف -من حيث نوعها ونطاقها- عن تصرفاته السابقة، والجبهة السورية كان يمكن لإسرائيل تهدئتها ببضعة تصرفات غير عدوانية. لكن إسرائيل شنت حرب 5 يونيو/حزيران 1967 استمراراً للتطهير العرقي وابتلاع فلسطين كاملة.
يروي إيلان في الفصل الثاني كيف أنه بعد ثلاثة أيام من القتال، أحكمت إسرائيل سيطرتها على فلسطين التاريخية، ووضعت في قبضتها مليون فلسطيني بالضفة الغربية، وحوالي نصف مليون في قطاع غزة، كلهم تحولوا في نظر الصهيونية إلى لاجئين على أرضهم، ويوم 8 يونيو/حزيران أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية ليفي إشكول أن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل.
كما تم الاتفاق على سياسة عامة تجاه الواقع الجديد: مصير الأراضي وطرد السكان ومستقبل القدس. وما لم يظهر في السجلات؛ كان قرار ترك آلية السيطرة على حياة الناس في الضفة والقطاع إلى الجيش، وتحويلهم إلى حالة عديمي الجنسية، ودون وضع قانوني يحمي حقوقهم المدنية والإنسانية. وفي منطقة القدس الكبرى، كانت جميع هذه المواقف والممارسات قد دخلت حيز التنفيذ في الشهر الأول من الاحتلال.
في الفصل الثالث؛ يكشف المؤلف كيف كان ترسيم مساحة فلسطينية محصورة داخل عدة مناطق يهودية مستعمَرة، نتيجةً لجهد متضافر منح السجن الهائل شكلَه النهائي. ويصف التخطيط الدقيق والتنفيذ السريع لهذه الخطة خلال السنة الأولى بعد نهاية حرب 1967.
وذلك قبل أن تحاول إسرائيل تبرير استعمار الضفة الغربية وقطاع غزة باعتبارها إياه رد فعل أمنيا ضروريا ضد أنشطة المقاومة، أو القيام بعمل انفرادي في مواجهة الجمود الدبلوماسي الذي طال أمده.
كان هناك مشروعان رئيسيان: مشروع خارجي يعتمد تقطيع الضفة الغربية وغزة إلى شرائح عبر إقامة المستوطنات، ومشروع داخلي هو إصدار مراسيم وقوانين مستمرة لا تنتهي أبدا، والغرض منها هو مصادرة الأراضي الفلسطينية لاستعمارها مستقبلا، والحد من النمو الطبيعي والعضوي للمجتمعات الفلسطينية عبر منع البناء والتوسع الجديدين إلى ما بعد القدس الكبرى.
وكذلك الحاجة إلى رسم عمليات الاستيلاء الجديدة -بطريقة ترضي شهية إسرائيل وتهدئ مخاوفها- هو جوهر الفصل الرابع. تقدم ييغال آلون وموشيه ديان بهذا النهج؛ فقد كان آلون يقود وحدات النخبة الصهيونية ومسؤولا فعلا عن التطهير العرقي بالقرى والبلدات الفلسطينية عام 1948. وقدمت له نتائج حرب يونيو/حزيران فرصة لاستعادة أمجاده القديمة، وكان مشروعه يقوم على تهجير فلسطينيي الضفة إلى الأردن.
كانت ثقة موشيه ديان المتغطرسة ترى أنه لا شيء يجب أن يقف في وجه إسرائيل. وكانت توقعاته الدائمة تقضي بأن الفلسطينيين لن يستطيعوا تشكيل حركة تحرر وطني، وأنهم مجموعة متباينة من الطوائف الدينية وليسوا شعبا أو مجتمعا، ويجب التخلص منهم بطردهم إلى ملك الأردن الحسين بن طلال.
سلاح الاقتصاد
في الفصل الخامس يسرد المؤلف كيف أنه خلال شهر يونيو/حزيران 1967 أيضا، وضعت إسرائيل أساس واقع جديد في الضفة والقطاع استمر حتى اليوم. وكانت الفكرة المهيمنة هي كيفية فرض واقع اقتصادي يمكّن المستعمرين الجدد من الهيمنة على السكان الأصليين.
كان الافتراض الأساسي هو بناء مجموعتين من المصالح، وفيما يخص السكان الأصليين للبلاد فإن الاقتصاد يجب أن يعمل كمكافأة على السلوك الجيد، وأيضا وسيلة عقاب على السلوك السيئ من وجهة نظر المستعمرين.
التطهير العرقي في يونيو/حزيران 1967 هو عنوان الفصل السادس، ويؤكد إيلان أن حزب العمل الإسرائيلي كان أكثر شرا وتوافقا مع المشروع الصهيوني الاستيطاني، ومشروعه يقوم على تشريد السكان الأصليين. ولم يكن هناك سبب يدعو لعدم التفكير في ذلك أو تنفيذه، ولكن الظروف التي تكشفت بعد الحرب هي التي استبعدت التطهير الواسع النطاق، وهدّأت قليلا خطواته العملية.
كان مردخاي غور أحد الضباط الكبار بالجيش الإسرائيلي، وقد تقدم بمشروع للحكومة -في يوليو/تموز 1967- يقضي بخلق ظروف تجبر الفلسطينيين على الرحيل. وضرورة استيعاب لاجئي غزة في الضفة الغربية، ثم الضغط على الجميع للرحيل فقط. ويجب العمل على ترسيخ الشعور بعدم الأمل في البقاء، وتجميد كل مشروعات الإغاثة والمساعدة والتنمية لتشجيع الترانسفير.
الفصل السابع يناقش أسطورة العقد من 1967 إلى 1977، وكيف تم تصويره كذبا في أكثر من مطبوعة إسرائيلية كـ”عقد مستنير”، يحمل الكثير من فرص السلام والتقدم للفلسطينيين أكثر من أي وقت مضى. لكن الحقيقة -كما يرويها الكتاب- هي أنه كان عقدا تحوَّل فيه أهل الأراضي المحتلة منذ اليوم الأول إلى نزلاء مدى الحياة (هم وأطفالهم وأحفادهم) في سجن تحكمه بيروقراطية تنظر إليهم بوصفهم تهديدا محتملا ومصدر خطر.
وكانت مسؤولية خداع العالم في ذلك العقد تقع بالأساس على حزب العمل، وشيمون بيريز الذي صوروه على أنه رجل سلام. في حين أن الخطوط العريضة للمستعمرات اليهودية في المستقبل تم إنشاؤها على أيدي السياسيين العماليين في العقد الأول من الاحتلال.
الخطوات التفصيلية للخطة الإسرائيلية هي موضوع الفصل الثامن، فعندما انتهت اجتماعات مجلس الوزراء الأساسية في يونيو/حزيران 1967؛ انتهى القرار باستبعاد الضفة الغربية وقطاع غزة من أي جدول أعمال للسلام، ونقل حكمها إلى الجيش، والإذن ببعض عمليات الطرد الخفي دون طرد جماعي، وإدماج الأراضي في الدولة اليهودية دون ضمها رسميا، وبالتالي ترك الناس هناك في طي النسيان المدني والشخصي.
كانت اللجنة المسماة “لجنة المديرين العامين” مشكّلة من المديرين العامين لجميع الوزارات، وأوكل إليها وضع البنية الأساسية للسجن الكبير. أنشئت اللجنة في 15 يونيو/حزيران، وجميع اجتماعاتها مدونة في مجلدين يضمان آلاف الصفحات.
كانت الرغبة هي تعزيز الوجود اليهودي في الضفة الغربية، وبدرجة أقل في قطاع غزة. غير أن الواقع تشكل أيضا بالرخصة الجديدة التي أعطيت لحركة المستوطنين التي نشأت عام 1968، وهي تسعى بشكل مكثف إلى إيجاد مواقع جديدة لبناء مستعمرات في المناطق الفلسطينية. بيد أن تأثيرها لم يكن ملموسا حتى وصل الليكود إلى السلطة في 1977.
طريق الانتفاضة
في الفصول التاسع والعاشر والحادي عشر؛ يصل المؤلف إلى الانتفاضة الأولى والثانية، فقد كان العقد (1977 إلى 1987) مملوءا بخيبات الأمل للفلسطينيين، وأسماه إيلان “عهد المستوطنين”.
وفي نهاية ذلك العقد وتحديدا في ديسمبر/كانون الأول 1987، دهست شاحنة يهودية أربعة فلسطينيين من مخيم جباليا للاجئين، فاشتعلت انتفاضة الشعب الأولى (انتفاضة الحجارة). استجاب الفلسطينيون للانتفاضة بصورة لم تحدث منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وأصبحت صورة الطفل النحيل يواجه دبابة عملاقة بحجر في يده أيقونة لفلسطين في أعين العالم.
استمرت الانتفاضة الأولى ست سنوات، وقُتل فيها ألف فلسطيني واعتُقل 120 ألفا، كثير منهم دون سن السادسة عشرة. ثم وقع الفلسطينيون في خدعة اتفاق أوسلو الذي امتلأ بالأساطير، ولم ينتج عنه سوى زيادة السيطرة الإسرائيلية ووحشية المستوطنين. واتهمت إسرائيل والولايات المتحدة عرفات بأنه يقف خلف اندلاع الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) للحصول على مكاسب سياسية.
في النهاية نتج عن الانتفاضة الأولى نموذج آخر للسجن المفتوح، وبعد الإطاحة بالانتفاضة الثانية، ظهر نموذج جديد لسجن شديد الحراسة عام 2000، واستمر هذا النموذج عدة سنوات ثم تحول إلى نموذج مختلط من كل ما سبقه في عام 2005.
وفي الفصل الثاني عشر؛ يروي المؤلف عملية بناء مدينة عربية وهمية في صحراء النقب عام 2004، بالحجم الطبيعي وبتكلفة بلغت 45 مليون دولار. شوارع بأسماء، ومساجد ومبان عامة وسيارات، وأصبحت قطاع غزة المزيف في شتاء 2006.
أنشئت المدينة للتحضير لحرب أفضل نتائج لإسرائيل ضد حركة حماس، وإعداد الجنود لسيناريوهات وُضعت للقطاع كثيف السكان. وحضر وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك “بروفة” للحرب في “مدينة الدُّمى” هذه، وصور الإعلام الغربي قواته البرية تقهر المدينة الوهمية وتقتل “الإرهابيين” فيها.
كان الجيش الإسرائيلي يتصرف كقوات أمن تتدرب لاقتحام سجن، فيه سجناء محاصرون من كل جهة. كانت المواجهة الفعلية وجها لوجه داخل السجن قد كلّفت الجيش عشرات من أفراده، لذلك كان الأسلم لهم أن يعتمدوا سياسة التجويع والعصر البطيء، حتى ينتزعوا الحياة من القطاع المسجون.
يتقدم عمر السجن الأعظم في التاريخ (فلسطين المحتلة)، ولا يزال الجيل الثالث من السجناء ينتظرون من العالم أن يعترف بمعاناتهم ويدرك ما هم فيه من اضطهاد مستمر. وأن الحصانة التي تلقتها إسرائيل -على مدى نصف قرن- تشجع الآخرين (من أنظمة ومعارضين على حد سواء) على الاعتقاد بأن حقوق الإنسان والحقوق المدنية في الشرق الأوسط لا قيمة لها.
Sorry Comments are closed