* منصف الوهايبي
تعيدنا ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وخاصّة سوريا من حيث هي أحداث فريدة استثنائيّة ـ مهما يكنْ الموقف منها أو من التسمية ـ إلى هذا الموضوع الشائك القديم المستجدّ «سوسيولوجيّة الثقافة وسوسيولوجيّة القراءة»؛ ونحن نرى كيف ينتصر مثّقفون وكتّاب وشعراء وفنّانون مرموقون، لأنظمة سياسيّة مستبدّة بدل الانتصار لشعوبهم ـ على تفاوت استبدادها؛ فمنها من يلتهم شعبه بالأنياب والأظافر، ومنها من يأكله بالشوكة والملعقة والسكّين ـ وإنْ لا مفاضلة بين استبداد وآخر، ولا بين قاطع الطريق الذي يفصح عن هويته حالما يباغتنا في مفترق مظلم، والمجرم الذي يأتينا في مسوح الرهبان؛ ثم يرتكب جريمته وهو هادئ السّرب وادع النّفس.
ذلك أنّ هذه الأنظمة تتحكّم فيها كلّها أنساق فكريّة إطلاقيّة مغلقة سواء تذرّعت بـ»العلمانيّة» أو «الوطنيّة» أو «القوميّة»، وهي التي لا تتقبّل المختلف عنها، ولا تتمثّله أو تتعقّله إلاّ في صورة عدوّ ينبغي دحره وبتره. ولا تكبيت ضمير ولا وخز ندم، فهذه كلمات قذرة في عرف هذه الأنظمة»الحثالة»، وأفكار شرّيرة فاسدة مخرّبة ترتبط بالمناورات والمعاملات المنحطّة.
ثمّة أسئلة كثيرة يطرحها هذا الواقع الثقافي العربي الملتبس، حتّى أنّ طرحها قد يبدو من قبيل المكرور المعاد؛ ومع ذلك لا نتردّد في طرحها لأسباب ودواعٍ شتّى؛ ولكنّها تفضي كلّها إلى علّة في ثقافتنا تتعلّق بهذه السوسيولوجيا: سوسيولوجيا الثقافة والقراءة. ونحن لا نقول هذا من موقع «شيطنة» الآخرين، أو لأنّنا «ملائكة»؛ وإنّما لأنّ هؤلاء أو بعضهم «عقلاني» و»حديث أو حداثوي» ما انفكّ يدين السلطة بالمعنى الواسع للكلمة: سلطة الدين والأب. ومن حقّنا أن نسأل ونتساءل: ماذا تنتظر من مثقّف مثل هذا يبارك سياسة نظام قمعيّ لا يتورّع عن ارتكاب جريمته بدم بارد؟ أنظنّ أنّه كان يفعل ذلك من منطلق قناعة إيديولوجيّة أو رؤية ثقافيّة رصينة؟ هو على الأرجح يصدر عن طبع أو ثقافة؛ والأدهى أن يكون عن «طائفيّة»، ومن الصّعب أن يتخلّى عن هذا الطّبع وهذه الثقافة. والثقافة تفعل بنا برويّة أو قصد؛ أو من دونهما، وتتسلّط علينا وتتصرّف بعقولنا، فتغيّرها من حال إلى حال؛ وكأنّ الجدليّة النّاظمة لها ولنا ، ليست أكثر من جدليّة الزّوج القائم في زوجه المضادّ له. وهؤلاء مثقفون لم ينسحبوا من المشهد السياسي بالمعنى الواسع والعميق للكلمة، بل هم مثل كثير أو قليل منّا يقفون على تخومه، ويرون من حافته الهوة الفاغرة التي تنتظرنا والتي يمكن أن تنغلق علينا في لحظة ما. وبعض هؤلاء من المثقّفين العرب يعيش في أوروبا، في بلدان ديمقراطيّة؛ وليس له أن يتذرّع بأنّ هامش الحرّية المتاح يضيق بالرأي والرأي المخالف أو المختلف.
وهو يقول بالكونيّ، أي عالم الحداثة والقدرة على أخذ القدر المشترك والمصير المشترك بين كلّ ثقافات العالَم بالاعتبار؛ وليس لها من قدر غير الحرّية. فلعلّ العلّة إذًا تكمن في العلاقة بالتنشئة الاجتماعيّة التي تلقّيناها ونتلقاها. وعلينا أن ننتبّه إلى أنّه توجد أشكال متنوّعة بين المجتمع وثقافته: ثمّة المعرفة التّاريخيّة والأساطير والآداب وممارسات السّلطة السّياسيّة والتّمثّلات الجماعيّة [المخيال]. ونعرف أنّ السوسيولوجيا اهتمّت في النصف الأوّل من القرن الماضي، بالعمل الإدماجي الذي يمكن أن تنهض به الثقافة والقراءة. والمقصود بذلك إعادة تنشئة الفرد اجتماعيّا وثقافيّا وأخلاقيّا. وهذا عمل لا تقوم به الأسرة وحدها أو المدرسة، وإنّما المؤسّسات الثقافيّة. وربّما كان ذلك، من منظور تاريخيّ، في أمريكا؛ من أجل توحيد القيم والمراجع الإيديولوجيّة والدينيّة والتاريخيّة، وجسر الهوّة بين الإثنيات والعناصر القوميّة المختلفة، أو ما يُسمّى «الخليط البشري» كما هو الشأن في بلدان عربيّة غير قليلة.
لكن لا يجوز أن نجعل أيّا منها تحلّ محلّ الخطاب التّاريخيّ العقلاني أو التّفكير العقلانيّ؛ فعلى الحاضر أن يضطلع بمسؤوليّة مساءلة الماضي والحاضر معا، وليس العكس وإلاّ فإنّ الأمر يكون عبثا منطقيّا وإتلافا للزّمن؛ فلا يمكن للفكر العربيّ الحديث أن يكون، اليوم، حديثا بحقّ إلاّ إذا تعاطى مع السّلف بوصفه أسبقيّة في الزّمن لا بوصفه سلف الوصاية، ومع الحاضر من منظور القيم الكونيّة.
وقد يرى بعضنا أنّ أساس الداء إنّما هو القمع والاستبداد والتخلف وما إلى ذلك ممّا اعتدنا قراءته أو سماعه كلما تعلّق الأمر بموضوع كالذي نحن فيه. والمسألة الثقافية أعمق من أن تختزل في هذا. وقد ذهب في ظنّ كثير منّا في تونس مثلا أنّ بن علي خلّصنا من خرف بورقيبة ومن خطر «الأصوليّة» أو»السلفيّة» الداهم. ثمّ بدأنا نرى بأمّ أعيننا حجم الدمار الذي ألحقه نظام بن علي بالتونسيّين، وأنا أقصد هنا الدمار النفسي والفكري. وهو مروّع حقا، ذلك أنّ نظام بن علي لم يحرم شباب تونس من حرّية التعبير فحسب، وإنّما من القدرة على التعبير أيضا.
ومن حقّنا اليوم، بعد كلّ هذا الدمار الذي نراه في سوريا خاصّة، أن ننتظر من دولنا، أن تقوم على ذات المبادئ الكونيّة في الحرية والديمقراطية والمساواة، وأن نطالبها بذلك. ولكن دون أن نغفل السؤال المطروح علينا جميعا هو: كيف نتعامل مع هذا الواقع في كليته تعاملا نقديّا يعيد اليه تاريخيّته ويضمن له انسجامه ونسبيّته؟
وقد ذكرنا في مقالات سابقة، أنّ هذا التعامل النقدي المنشود رهان محكوم بمعادلة كان عبد الله العروي قد طرحها في صيغة سؤال هو: كيف تقام الدولة بالديمقراطية؟ وكيف تقام الديمقراطية بالدولة؟ ذلك أنّ الإخلال بأحد هذين الشرطين أي ترسيخ كيان الدولة بكل ما يتطلبه ذلك من أمن واستقرار من جهة، وتغييرها بالديمقراطية والحرية والتعددية، من جهة أخرى، لا يمكن إلّا أن يبذر بذور الفتنة والعنف والاستبداد. وهذا الرهان إنما هو مسؤولية المثقف أو الثقافي قبل السياسي ومسؤوليته تعني من ضمن ما تعني المشاركة الوطنية في الثقافة أي معرفة عمق تاريخنا وأرضنا والأخذ بأسباب العالمية من باب المواطنة اللغوية والثقافية المنفتحة، ونحن إنما نقصّر في حق وطننا اذا قلنا إنّه وطننا فحسب، فهذا كما كتب سارتر تعبير غائم؛ فالوطن، هو بالأحرى حظنا ونصيبنا.
بعض أصدقائنا ـ ممّن جاذبناهم هذه المسألة ـ يرى أنّ «القراءة» لم تستقرّ بعد في ثقافتنا العربيّة مِراسا يوميّا أو ثابتا من ثوابت الحياة؛ وإنّما هي تلوح ترفا تتمتّع به نخبة محصورة في المثقّفين والجامعيّن. الأمر الذي يسوّغ طرح سؤال سوسيولوجيّة الثقافة في علاقتها بسوسيولوجيّة القراءة: ماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ بل ما جدوى القراءة؟
قد يكون الأجدى أن ننطلق من تمييز قد يلوح بسيطا؛ ألا وهو التّمييز بين فعل القراءة بما هي إجراء تقنيّ أساسه مطالعة هذا الكتاب أو ذاك، والقراءة من حيث هي إجراء معقّد لا يقلّ تعقيدا عن فعل الكتابة نفسها. ولا يتعلّق الأمر، بالمفاضلة بين هذين المستويين من القراءة. ولكن يعنينا أن نشير إلى كون القراءة دربة ومِراسا يوميّين يستقرّان في حالة المواظبة عليهما عادة مألوفة بل إدمانا مأنوسا. وهذه مهمّة تحتاج إلى تكاتف مؤسّستيْن متكاملتيْن: الأسرة والمدرسة. وهذا يقتضي، لا محالة، ضبط ملفّات كثيرة يتعهّدها أهل الاختصاص وكلّ ذي علاقة بتكوين الإنسان معرفيّا في العالَم العربيّ.
ما يشغلنا هو أن نبسط مسألة «القراءة» بما هي استكمال وظيفيّ لفعل الكتابة، أيّا يكن ضربُها، سواء أكانت كتابة أدبيّة سرديّة أو شعريّة، أو كانت كتابة علميّة أكاديميّة، أو كانت كتابة نقديّة ثقافيّة أو صحفيّة، أو كانت كتابة تاريخيّة، أو كانت كتابة فلسفيّة أكاديميّة أو فكريّة ثقافيّة، أو حتّى قراءة في الأحداث الجارية… فالقراءة في حدّ ذاتها استراتيجيّة أو سياسة معقّدة المستويات، وربّما كانت أيضا مؤسّسة يمكن أن نطلق عليها «المؤسّسة القرائيّة».
وقد صار لزاما علينا، بعد كلّ هذا الدمار النفسي والأخلاقي، لا المادّي فحسب؛ أن نفكّك هذه «المؤسّسة القرائيّة» إلى فروعها أو دواليبها. ونحن نقدّر أنّ ما نقترحه من مسالك للقراءة يمكن أن يسمح بتمثّل استراتيجيّ لها، متكامل قدْر الإمكان. وهذه المسالك في القراءة مرتبطة ضرورة بأنماط الإنتاج الكتابيّ، ولكن أيضا بظواهر حياتيّة مباشرة: قراءة النّصّ الدّينيّ بين استحضار مدوّنته التّفسيريّة والتّناول التّأويليّ التّحديثيّ له، وتجديد قراءة الأدب قديمه وحديثه بأدوات التّحليل النّقديّ الحديث وفي ضوء المقاربات الفلسفيّة الرّاهنة من فينومينولوجيّة، وأركيولوجيّة، وتفكيكيّة، وقراءة الموروث السّردي مثلا ببراديغمات قراءة الرّواية العصريّة [البراديغم هو النّموذج التّفسيريّ أو التّأويليّ المتّبع في تناول نصّ ما أو ظاهرة ما.]
نخشى ـ إذا أغفلنا كلّ هذا ـ أن نكتشف يوما حقيقة مرعبة مفادها أنّ بن علي ومبارك والأسد حكمونا بذلك الشّكل القبيح والبائس لأنّ كثيرين منّا مثقّفين وكتّابا وفنّانين وشعراء، يشبهونهم.
Sorry Comments are closed