لا أدري لماذا الحساسية المفرطة من كلمة مجتمع مدني؟ بمجرد أن تطرح كلمة المجتمع المدني تجد نفسك عرضة للقمع حتى من أشخاص لا تتوقع أن لهم علاقة بالموضوع، فما السر الخطير في هذا المصطلح هل هي المدنية التي تخيف الجميع ؟
ما دفعني للبحث في هذا العنوان الكبير هو بدء تشكل نويِّات صغيرة لتنظيمات مدنية ضمن الكتل السكانية التي تشكلت نتيجة القصف والتهجير في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام القمع الأسدي، وهذه النويَّات طرحت توجهاً مدنياً، كما إن معظم مكونات هذه التجمعات من الشباب المثقف والمتعلم.
بادئ ذي بدء من أين خرج هذا المصطلح “المجتمع المدني”؟
هو بالمطلق مصطلح ثوري، فقد ظهر هذا المصطلح تاريخياً على يد فلاسفة أوربا في القرن الثامن عشر الذين انتفضوا بوجه المجتمع الديني الذي كان يحكم أوربا بشكله الاقطاعي، مستندين إلى رواياتٍ كثيرةً عن التفويض الإلهي لرجال الكنيسة، وما رافق ذلك من انحطاط وجهل وتخلف، لكن هذا المصطلح لم يحافظ على نشأته الأولى فقد تغير في أماكن أخرى ليقف بوجه الحكم العسكري، فأصبح المدني هو ضدٌ للعسكرة والمجتمع المدني ضد الحكم العسكري.
فيما يتعلق بالبلدان الاسلامية والعربية على وجه الخصوص فهي لم تعرف مصطلح المجتمع المدني، فدولة الخلافة التي كانت تقيد أكثر السلطات بيد الخليفة، انتقالاً إلى المستعمر العثماني الذي نهج نفس النهج بتسلط الخليفة، نستثني من هذه المرحلة فترة التتريك التي حاولت تغيير منهجية السلطة العثمانية إلى المنهج الغربي في الحكم، الذي بدأ بالخروج عن شكله الديني كما قلنا سابقاً متأثراً بأفكار الفلاسفة ضد سلطة الكنيسة، لكنها بالجوهر سلطة الحاكم في البلدان العربية لم تغير من نهجها حتى بعد انتقال الحكم إلى المستعمر الأوربي، ومن ثم للقوميين الذين حكموا وتسلطوا بشتى أنواع القمع والقهر ضد شعوبهم وخصوصاً من رفع شعار المدنية، ونحن كسوريين تعايشنا مع هذا القمع طيلة خمسين عاماً ولم يكن أحدٌ يتجرأ على طرح مفاهيم المدنية التي سَّوق لها النظام بشكلها المعروف (شعارات فارغة ومضامين قمعية).
ككل الأشخاص العاديين وأقصد غير المختصين بعلم الاجتماع كنا نخاف من أن الطروحات المدنية تتعارض مع أنظمة الحكم العسكرية القمعية، لكن أن تتعارض المفاهيم المدنية مع الدين الاسلامي أو مع الشرائع السماوية فهذا ما ظهر لنا فيما بعد، وتحديداً عندما بدأت المحاكم الشرعية بحكم المناطق المحررة من سطوة نظام الأسد، فهل فعلاً المجتمع المدني هو علماني بالمطلق؟ وهل يتنافى مع كوننا شعوباً مسلمة؟
في البداية يجب أن نوضح ماهية المجتمع المدني، حسب موقع “اسلام ويب” المجتمع المدني هو المجتمع الذي يقوم على المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة باستقلال نسبي عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة ،وهي تعتمد ضمنياً على العمل التطوعي الذي لا يستهدف الربح، ولا تستند فيه العضوية على عوامل وروابط الدم والوراثة مثل الأسرة والعشيرة والقبيلة، وبناءً على هذا التعريف فإن مقومات المجتمع المدني هي: التنظيم والتعددية والفعل الإرادي الحر أو التطوعي وعدم السعي للوصول إلى السلطة، وكذلك عدم استهداف الربح.
مؤسسات المجتمع المدني هي التجمعات التي تحدث نتيجة التقاء أفرادها حسب تصنيف ما، كنقابات العمال أو الطلاب، فهل تتعارض هذه المفاهيم مع المجتمع الإسلامي؟
يرى د. صبري محمد خليل أن مجتمع مدني يتفق على المستوى النظري مع منهج المعرفة الإسلامي والفلسفة الاجتماعية السياسية الاسلامية، ويتسق على المستوى التطبيقي مع واقع المجتمعات المسلمة فهو نموذج رائع يمكن تطبيقه ضمن شروط عالمية موضوعية بعيدة عن التأثير الداخلي، وأنه قد ظهر في التاريخ الإسلامي مجتمع مدني طبقاً للخصائص السابقة (1).
في الحقيقة وعبر مقالي المتواضع هذا وأنا لا أنوي كتابة بحث موسع حول المجتمع المدني الإسلامي ولا حتى دراسة المدنية في الفكر الإسلامي، لكنني وبكل بساطة ودون تنميق العبارات كثيراً، أتساءل دائماً.. ألم يغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم يثرب إلى المدينة؟ ومن هنا حسب محمد شعلان بدأ بتأسيس المجتمع المدني في الإسلام ليكتمل بالقرآن الذي هو دستور ناظماً لحياة المسلمين، وهذا ما نسميه في المجتمع المدني بالتنظيم (2).
ورغم سطوة قريش وقمعها للمؤمنين، ألم يلتف أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم حوله، وبملء إرادتهم تحملوا العذاب والتهجير لوقوفهم إلى جانب رسول الله ولنصرة النبي وإعلاء كلمة الله؟ أليس هذا ما نسميه الفعل الإرادي الحر والتطوعي؟
ألم ينشأ الوقف وظهرت مجموعات المهن المختلفة من صانعي السيوف والبنائين، وهم أصلاً كانوا موجودين في يثرب لتشييد المباني وتجهيز الجيوش للفتوحات القادمة؟
كما قلت، لست في معرض إجراء المقابلات بين هذه وتلك ولكنني استغرب ممن يتنطحون لكل من ذكر على لسانه تسمية المجتمع المدني وكأن المدنية رهن بالعلمانية، فلا مجتمع مدني دون العلمانية؟ وهذه المقولة بالمطلق ليست صحيحة، حتى إن كارل ماركس أفرد بحثاً خاصاً بالبلدان العربية لخصوصيتها ولأنها نموذج مختلف عن الدول الرأسمالية، كما جاء في الأدبيات الماركسية بأنها تحتاج لدراسة أكثر لخصوصية مجتمعاتها ولانفرادها بعلاقات اجتماعية يحكمها الدين أكثر من الاقتصاد.
.. ولهذا فإنني أرى أن المجتمع المدني الذي نحلم به كسوريين والذي دفعنا أثماناً باهظة لقاء حريته وكرامته لن يتحقق بعودة طاغية آخر يرتدي ثوبا مختلفاً، فالمجتمع الذي نحلم به يبنى على تحكيم العقل في إدارة حياتنا، ويمكن تحوير وتحويل كل قانون أو نظرية دنيوية وضعية لتناسب مجتمعاتنا الممتلئة بالتنوع.
ألم يخاطب الله في كتابه العزيز العقلاء من البشر؟ بل إن القرآن كله دعوة للتعقل واستعمال العقل.. “ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون” يوسف 2
…………………………
(1) – مفهوم المجتمع المدني بين الفلسفة السياسية الغربية والفكر السياسي الاسلامي د. صبري محمد خليل.
(2) – المجتمع المدني في عصر الرسول الإسلام والمجتمع المدني محمد شعلان.
Sorry Comments are closed