انتهت ثورات الربيع العربي، حتى في اليمن، إلى حصول تغييرٍ ما، أقله على مستوى سقوط رؤوس الأنظمة، إلا الثورة السورية، حيث تصر روسيا وإيران على إسقاطها، وجعل العالم يندم لأنه صدّق يوماً أن ثورةً حصلت في سورية!
المنطقي والطبيعي أنه، بعد تلك النكبة المديدة التي حلت بالسوريين، وحتى على افتراض أن الثورة هزمت، أن تذهب الأطراف التي تدّعي رعايتها السلام إلى الانتقال إلى أوضاع مختلفة، وإلى إيجاد صيغةٍ جديدة، تضمن من خلالها عدم انتكاس الظروف التي أنتجت الصراع، والهروب من شبحها قدر الإمكان.
لم يتغير شيء في سورية، كما لم يتحقق أي شيء، باستثناء إنجاز الوعد بحرق البلد. لكن حتى هذا الوعد كان يفترض أن يتحقق مقابل رحيل الأسد، لأن الأنصار المحليين للأسد في سورية كانوا يدركون تماماً أنهم لا يستطيعون حرق البلد وإبقاء الأسد، ولذلك لم يختاروا سوى مهمة واحدة، وبما أن غالبية الشعب السوري أصرت على رحيل الأسد، وانحصر خيار المؤيدين بحرق البلد.
هل كانت المعركة مع الخصم المحلي أرحم؟ إذ على الرغم من مجازره المبكرة وجبروته، إلا أن ضعفه وحسابات بيئته بعيدة المدى كانتا ثغرتين يمكن من خلالهما إيجاد خياراتٍ أفضل، للخروج من الأزمة التي صنعها نظام الحكم الأبدي. ولكن، وبما أن الخارج استدعى نفسه لإنقاذ الأسد، فإن هذا التحسّر لم يعد له معنى اليوم.
اليوم، يستفيق السوريون على مشهد غير الذي تأملوه وحلموا به، وعدا عن حجم كارثة مهول، وخصمين من أبشع ما عرف التاريخ من خصوم، روسيا وإيران، لا صديق ولا شقيق، بعد أن نفض الجميع يديه من عار تضامنهم معهم يوماً ما، وصارت كل الأطراف على مسافة واحدة منهم، الفرق بين طرف وآخر هو في نوعية الاستثمار الذي يريد تحقيقه من نكبة السوريين.
وربما أن المفارقة تكمن هنا، وفي هذه الجزئية بالذات، وهي تحوّل نكبة شعبٍ إلى فرصة واستثمار بنظر العالم الخارجي، من ترويج السلاح إلى إعادة الإعمار إلى تقاسم النفوذ وتبادل المنافع والمصالح، وكأن رقعة الدم السوري أخصب أرض للاستثمار، في زمن أزمة الأفكار القابلة للتحول إلى استثمارات؟
والمفارقة الثانية أن يجد طرفٌ نفسه، الثورة السورية، أمام سلسلة طرقٍ مسدودة ومحاصرة، تماما مثل مناطق خفض التصعيد التي أوجدتها روسيا، لتحاصر الثوار في بؤر متفرقة. وقد تشكّلت غالبية أجزاء هذا المشهد في اللحظة التي تخلى فيها أصدقاء الثورة عن دعمهم، في حين كانت روسيا وإيران في ذروة هجومهما على الثورة. وقد جاء هذا التخلي بدون سابق إنذار، ولم تمنح قوى الثورة الفرصة للملمة نفسها، وإعادة التموضع بما يتناسب والتغيرات الجديدة. ونتيجة ذلك، كان الحصار وفق الشكل الذي حصل فيه.
لا ترضى روسيا اليوم بمحاصرة الثوار، ولا ظهورها بمظهر المنتصر، ولا باعتراف القوى الدولية الإقليمية بعلو كعبها في سورية. إنها ترى ذلك كله تحصيل حاصل لجهودها، وإنما تطمح إلى أكثر من ذلك بكثير، تريد ضمان مستقبل “ابنها” بشار الأسد الذي غامرت لأجله، وواجهت التحديات، وغيّرت الوقائع بطريقة قاسية ومؤلمة، للوصول إلى هذه النتيجة، حتى أنها تعتقد ان مصيرها “في سورية والشرق” مرتبط بسلامته وبقائه.
لذا، كان القرار الروسي تحويل بشار الأسد إلى ملك سورية. لم لا؟ يليق بالرئيس بوتين، بعد هذا النضال العالمي ومقارعة القوى الكبرى، أن يصبح صانع ملوك. ولم لا ومنطقة الشرق الأوسط أرض ملوك، حتى الجمهوريات والدول في هذه البقعة صنعت ملوكها؟ ألم يصبح أردوغان ملك تركيا، ونتنياهو ملك إسرائيل، ولإيران ملكها الولي الفقيه، وحتى مصر سائرة على طريق جعل عبد الفتاح السيسي ملكاً؟
ثم ألم يصبح بوتين نفسه ملكاً لروسيا الحديثة، وحتى لو حصل، وأن ترك السلطة بعد حين، سيحكم ظله روسيا عقودا، وليس بعيداً أن يعمل بوتين على توريث ابنته الحكم، ومن استطاع تمرير مهزلة التناوب مع ميدفيديف لن يعجز عن اختراعاتٍ أخرى.
بشار الأسد ملك، يعني أن السلطة سيجري توريثها لابنه، وهذا يوفر مساحة زمنية كافية لتأمين الاستقرار الروسي في سورية، حيث تطمح موسكو إلى القيام بمشاريع اقتصادية عملاقة، وخصوصا في مجال ستخراج (وتسويق) الغاز من البحر المتوسط، بعد أن عقدت صفقات مهمة في هذا المجال مع إسرائيل وقبرص. وتتطلع إلى غاز لبنان وسورية، وترغب في جعل سورية مركزا لعملياتها ومشاريعها في المنطقة.
أمام هذا السيناريو الذي لا يتوفر سيناريو آخر غيره، ويبدو أن كل المسارات يتم تحويلها لتدعيمه، لا تترك روسيا لغالبية الشعب السوري سوى خياراتٍ محدودة، بل يمكن القول إنها لا تهتم حتى بمنحهم خيارات، على اعتبار أن الاستسلام الذي تطرحه عليهم ليس خياراً، ولا تنتظر موافقتهم عليه.
عذراً التعليقات مغلقة