الشاعر
لا ينفك الشعر على الدوام من الموضوعة العربية الناظرة إليه بوصفه ديوان العرب ومجلسهم الآسر، لما لهُ من قدرة الشاعر على استقطابِ المتلقي، وخفته في التنقل، وحملهِ للحكمة والتطريب وسوى ذلك، وهوَ ما ترومه الذائقة والنفس البشرية عموماً، فكانَ الشاعر إلى جانبِ متعته الشخصية يتحمّل المعرفة بهِ كسفير ولسان حال قومهِ وهو الذي يفوقُ البشرَ العاديين بنزولهِ “وادي عبقر” ليتلقّىَ سرّ قصيدته، ” فينطقُ بالهوى” وما يلقنهُ جنيّهُ، ولهذا كانَ جزلُ العطاء مبرراً له، وكانت عقوبتهُ مبررة الفجور والمغالاة، لتصل القتلَ أو تخومَه. يبدو الكلام في حال السوريين اليومَ مختلفاً عما اتفق عليه في الأمسِ البعيدِ وحتى القريبِ، فالديوان لم يعد ديواناً له قداستهُ وأهميته التي كانت من حيث الإخلاص للشعرية وموضوعاتها ومراميها، بحيث لا مكان في الديوان لمن هو أقل موهبة ودراية وكانت المنافسةُ في رأسِ الهرم، بين الجيد والجيدِ.
تخلّصَ السوريون المهتمون من مقولة “موت المؤلف” وأحيوا، وربّما ابتدعوا، مفهومَ “الشاعر الملاك” وبذلك خلقوا القصيدةَ الأخلاقية التي تنحاز للقضيةِ كلياً، قصيدة محمّلة بالوعظ والـ “يجب” والثورة، حتى يكادُ المتلقي أن يشمّ فيها رائحة أجساد الضحايا، ويرىَ بوضوح كلمةَ “براميل” وصواريخ، “وشهداؤنا وقتلاهم” هي هذه حدود الشعرية، وسوى هذه تنكُر للقضيةِ والحالِ، ليكونَ النصّ الأقل صوتاً واحتفاءً بهذهِ المفردات “الكليشة” ضرباً من المروق، وإشاحةً عن مقتضى الحال، إذا نحنُ هنا أمامَ نصوص يومية، تكتبُ مباشرةً في حقلِ “بماذا تفكر”، نصوص نسائية هي جزء من البوح، ومحاولة التفاف على الرقابة الاجتماعية، بتغليفِ مناجاةِ الحبيبِ “بحبّ الوطن”، ونصوص رجالية تقتربُ من التهديد، تظهر فيها الفحولة، ومسكُ قصبِ الأخلاقِ والانتماءِ للمقدّس، ليظهرَ الآخرونَ على الضفةِ الأخرى لا أخلاقيين، ويتلظون ناراً في المدنّس! وهنا تنشأ الداعشية الشعرية، المكفّرة، والداعية إلى تقسيمِ كتّابِ الشعرِ على فسطاطين، أو ملائكة وشياطين، ليسَ هذا فحسب فالطرفان يتبادلانِ الأدوار، إذ تنشأ عند الطرفِ الأقلِّ حيلة المظلومية، فيقتربُ كثيراً من الدور الذي تمارسهُ “ملائكةُ الشعر”، هذا التبادل لا ينتمي إلى المنافسة وفرض الخيارات الجمالية الجديدة، إنّما إلى المعطّل، والذي سيخفي في عتمتهِ نصوصاً عظيمةً، لم تستطعِ المطاحشة والتدافعِ بالأكتافِ أو معرفةِ من أينَ تؤكل، ولا ينتمي أبداً إلى المقتضى الذي بينهُ (بورديو) “الحقلُ الأدبي هو ميدان صراع بين هؤلاء الذين قد احتلوا مواقعهم فيه وأولئك الذين يرغبونَ في طرقهِ والاستقرار فيه متى فرضوا اختياراتهم الجمالية”.
القارئ
لا عزلة بين الشاعرِ السوري وقارئه، طالما هو وعلى مدى السنينِ السبعِ، يقدّم نفسهُ كثائر قبلَ الشاعر، المتأثّر قبلَ المؤثّر، المُبسّط قبل المشتغّل، والذي يعنى بالفكرة قبلَ اللغةِ، وصولاً إلى لفظِ نص “الرؤية” خارجاً، والمطالبة بعودة أو بتسييدِ الشفويةِ وقصيدةِ السرافيس التي انتعشت ولفترة طويلة على يد شعراء، نظّروا لها وعدوها التطور المهمَّ للشعريةِ السوريةِ، والماركة المسجّلة باسمهم، وبعودة الهذر الذي يسميه أصحابه سرداً شعرياً وفي غياب لأيّ ملمحٍ جمالي، يقرأ على أنّه ما وراء المعنى أو فضاؤه الذي يلفُ النصّ ويخلصّه من اعتباطهِ، فإن ما يقرأ لا يعدو كونه عجزاً في العلاقة مع اللغة ومحيطها الدلالي الذي يكون المجتمع وبالتالي “القضية” جزءاً مضمناً فيه، لا غنىَ عنه، ولا ضيرَ فيما لو أنَّ القضية المثلى تحضر بوصفها تراكماً وسيرورة نفسيةٍ، لم تقحَم بقدر ما تجيء سلسة، سهلة، سيالة، تمَّ النظرُ إليها كخيط رفيعٍ يرفعُ من شأنِ العتمةِ في الكتابة، نحو تلمّس الغامض فيها.
الشاعر القارئ
في النظرِ إلى بعض التجارب اللافتة في المشهد الشعري السوري وجود قصيدة بتقاطعات عامة: روحُ التجريب، التناصات العميقة، تقليد الجيد شكلاً ومضموناً، لا سيما أنَّ بعض هذه التجارب، لا تلتفتُ إلى المنبرِ كوسيلة إعلامية (صحف، مجلات، مواقع مهمة)، إنّما تجعل من صفحتها على الفيسبوك النافذة الأهم، ما يجعلُ القراءات جلّها في هذا الفلك، وتغيبُ القراءات الجادة، أو مشاريع القراءة لصالحِ القراءة السريعةِ والمتنافرة أحياناً، وهو ما يعللُ وجودَ قصيدة جيدة واحدة وبأسماء مختلفة، ويبقىَ النصّ المغايرُ خارجَ السربِ، يلقىَ العداوة والتشكيك من الطرفين الملائكة والشياطين.
هذه ورقة نظرية ومقاربة عائمة للمشهد على أنَّ الرغبةَ تحدوني في قادم الأيام، لجعلها مبحثاً نظرياً وتطبيقياً، تكونُ الفائدة أكبر، وأكثر إثارة للمناقشة والاختلاف.
Sorry Comments are closed