* راما الزيات
سألني صديقي منذ أيام ماذا يمكننا أن نطلق على الثورة السورية اسماً يناسبها في العام المنصرم؟
كان السؤال مفاجئاً بالنسبة لي، لكنني أجبته: “فينا نقول عنها ثورة اليتامى؟”.
وحده صديقي يفهم معنى اليتم الذي أقصده، لقد كنا نعيشه معاً أثناء تهجير حلب الأخير، وعايشناه أيضاً مع الكثير من الانكسارات التي رافقت الثورة في العام الماضي. عن نفسي لازلت أشعر بقصم الظهر واليُتم مع كل حدث جديد يطال الثورة، من الاعتداء عليها، حتى محاولة تشويهها، فالاغتراب، والموت وإلخ …..
في العام الجديد، أو كما يجب أن يقال “في ميلاد الثورة الجديد”، عند ذاكرتنا التي يرغب كل واحد فينا أن يتيبس فيها للأبد فلا يصل إلى هذا المكان العابث بعد ست سنوات من ولادتها، وولادتنا، وولادة كل هذا الألم ..
استمرار الثورة كل هذا الوقت بالطبع لا يدل على خيبتها ولا على خسارتها تماماً، بل على صمودها وصمود أبنائها أمام كل هذه الآليات العتيدة التي تسعى لكسرها، استمرارها كل هذا الوقت يعني تكاثف الموت، ازدياده، وتوسع هوة اليأس في قلوب الكثيرين ..
منذ ست سنوات كانت مخافة الخروج على النظام موازية لمشهد الأمن الذي يرفع قدمه فوق رأس أحد الشباب السوري وهو يهتف به: “عم تطلع عن النظام ولاك؟، بدكن حرية؟”. الفيديو الذي انتشر صداه لاحقاً، بعد تبلور الثورة كمفهوم وضرورة وملاذ أمام كل هذا البطش الذي نخشاه ونهرب منه..
والآن مع حقيقة تتابع عملية الدهس والقتل والتدمير والتهجير أنا أقطن منفى لا يشبه البلاد التي أحبها، ولست أدري حقاً إن كان هذا الخيار خياري أم أنه كان تبعاً للموجة الثقيلة التي حُملنا على إثرها بعيداً، وبعيداً جداً ..
فعندما أفكر لماذا وصلنا إلى هنا أجد ألف سبب لذلك، ليس فقط أننا كنا نقاتل أسداً واحداً، ونحن اليوم في ساحة حرب لا نتمكن من عدّ أسودها الذين يتحينون الفرص للانقضاض علينا، بل عندما أعود بذاكرتي للبداية، عندما كان الوقت ضيقاً ومليئاً بروحنا الثورية الشابة في مواجهة نظام حكم سفاح..
حينها لم يكن على عمار أن يترك جامعته ويلتحق بالحراك الريفي وحده قائلاً أن الجامعة تنتظره حتى يعود أما الوطن فهو في أمس الحاجة إليه الآن ولن يخذله، ثم يستشهد باسمه.
كان على ماهر أن لا يختفي بعد اعتقاله الثاني كل ذلك الوقت وتنقطع أخباره كلياً عنا، ويمر على خطيبته شهر وعام دون أن تعرف عنه شيئاً ..
ما كان على العم أبو أحمد أن يستشهد بكل تلك الشظايا التي سكنت جسده، والتي استقرت إحداها في رأسه وبقي ينزف حتى الموت، فقط لأن حاجز الجيش منعه من الخروج للمستشفى أثناء الحظر المعتاد، ربما لم يكن على ذلك الحاجز أن يهدد بناته وزوجته بالاعتقال إن بقين يترجينه السماح لهن بالعبور، قد يبدو الأمر أكثر هوناً لاحقاً بعد أن لطخ دم أبيهن وجوههن فلم يتمكنّ من مسحه رغم مرور كل تلك الأيام وحتى بعد أن بقي قبره وحيداً في المدينة حتى جفَّ ترابه..
كل هذا كان داعياً لأن نصل إلى هنا!
استشهاد الشيخ الكبير في المدينة إعداماً أمام بناته فقط لأنه وقف مع الحق ضد النظام، ولأن الأحقاد أحاطت به بعد أن فض النزاع القائم بين اثنين في بداية الحراك المسلح أحدهما يريد السرقة والأخر يريد أن يحمي ثورة طاهرة، ووصل به الأمر في النهاية لأن يحاكم كل من يخرج عن أمرة السلاح المقامة تحت بند العقل والحاجة..
لماذا قتلت ريماس في طريق عودتها من الكنيسة ليلة العيد؟
لماذا أخطأتني رصاصة القناص؟
لماذا سقطت القذيفة بعيداً عنا، لماذا؟. لماذا!! ….
ألف لماذا نستطيع إسقاطها هنا دون أن نحصل على جواب واحد، ليسأل أحدنا ما الذنب الذي ارتكبناه لنغرق بكل هذا الدم؟، لماذا دفعنا كل تلك التضحيات حتى اليوم؟، قد يكون ذلك لندافع عنها ضد من يأتي ليقول أن الثورة كانت حراكاً مسلحاً وحسب، وأن الشعب شارك النظام فساده وبطشه. لنفهم أنفسنا كلما أتى آذار وأثقلنا الحنين لتلك الأيام التي عرفنا فيها الحق مكتملاً، وأحببنا الأخضر وآمنا به، ودفعنا لأجله عمراً كاملاً أقل ما يقال عنه اليوم، أنه ربع أو خُمس عمرنا.
هذا عامنا السادس ولأن أقلنا من بقي على إيمانه الأول بها، ولأننا لم نزل نخجل من ضحكات الشهداء، ولأننا لم نزل على الضفة الأخرى ننتظر آلاف المعتقلين خلف قضبان الموت بكل أمل أن يعودوا، لأنها حق وحق نؤمن به مهما أنهكنا الأمر، سنبقى نصارع من يحاول إخراس صوتها للأبد، هي حرية للأبد وثورة ليسقط الأسد وكل من شابهه .. كل من شابهه!
Sorry Comments are closed