الخوف من الاستبداد إلى الحريات

يمان دابقي5 نوفمبر 2025آخر تحديث :
الخوف من الاستبداد إلى الحريات

فئةٌ ليست بقليلة من السوريين، تحنُّ للمستبد ليس بصفته رجل، بل لأساليبه، التي كان يُوهم بها الناس أنّ هناك استقرارا ولو كان نسبيا، حتى لو كان في بيئة مظلمة، داخل زنزانة، أو سجن كبير كسوريا التي حوّلها لمملكة الظلام.

إرثُ الماضي الثقيل هو الذي قادنا لحاضرٍ مثقل بالأزمات المجتمعية، انفجرت دفعةً واحدة، بفارق لحظي تاريخي عنوانه “سقوط الدكتاتوريات وفتح باب الحريات”.

هذا المشهد أربك أولاً طبقة المسحوقين، من كل المكونات، ثم طبقة العبيد، الشريحة الموالية للديكتاتور، ثم حلفاً أقلويّاً تضرّر من رحيل الطغاة. بيد أنّ الرابط بين هذه الطبقات هو تغييب العقول ووضعها في سلة المستبد الذي كان يفكر ويقرر عنهم، راسماً لهم مساراً أحادياً لا بديل عنه، عبر صناعة الوهم والخوف، وتوريطهم في منظومة الفساد.
رحيل الطاغية ترك فراغاً واضحاً بحيث جعل تلك الشرائح تخشى وتخاف من الحريات، بل باتت تحنُ للماضي هرباً من الحاضر، ناسفةً من ذاكرتها أساليب العنف، والقتل والتدمير، فقط ما تبقى في ذهنها أوهام عن نظام كان قائماً، يسمح لها بالعيش بحدٍ دوني، دون أن يُكلفها ذلك عناء التفكير.

نعم أيها السادة كان التفكير واقفاً بشكل ممنهج طيلة حقبة الاستبداد، وهذا ما ظهر نتاجه اليوم في فشل شرائح كبيرة بالتأقلم مع الحاضر، وكيفية التعامل مع الحريات، والذهاب نحو التنظيم، أو التعرّف على الآخر، والسبب هو تعطيل أدوات التفكير طيلة عقود، بعد سحقها من قبل المستبدين الأسديين.

أسئلةٌ كثيرة لازالت معلّقة دون إجابة منذ سقوط الطاغية في الثامن من ديسمبر الماضي، أهمها عن سبب فشل بعض المكونات السورية في التأقلم مع الواقع الجديد، لاسيما بعد مضي ما يقارب العام على سقوط الطاغية، فما سبب هذه الأزمات المجتمعية التي انفجرت دفعة واحدة؟ ولماذا تنامى خطاب الكراهية، والانقسام القومي والعرقي والطائفي؟
هل فعلاً الشعوب السورية واعية لمرحلة الحريات أم أنها لم تستوعب بعد سقوط دولة الاستبداد، أم أن السلوكيات الصادرة عن بعضها تدلل على أنها لا زالت تحت أثر الصدمة “أي صدمة زوال المستبد” هل الخوف من الحاضر ومسؤولية التفكير الجمعي لتحديد المصير دفعت بتلك الطبقات إلى الحنين للطاغية كطوق نجاة من واقع معقد، أم أنّ زوال الخوف بعد سقوط الطاغية أطلق عندها عجلات تفكير مهترئة وتحاول اليوم تدويرها بالكامل، دون أي منهجية أو معرفة ماذا تريد، وهو الأمر الذي شكّل عندها حالة ضياع وارتباك وخوف ثانٍ بالتعامل مع الحريات.
ألم نشهد الكثير من المواقف في الساحة السورية بتفسير البعض للحرية على أنها تزوير للتاريخ، وتشويه الحاضر، بل ورفضٍ كاملٍ له؟. ألم يلحظ السوريون من سلوكيات تلك الطبقات، محاولتها رفض الحاضر والحنين للماضي رغم كل المآسي التي خلفها حلف الاستبداد. أليس الحاضر هو نتيجة طبيعية لإرث يعود لستين عاماً، إذاً ما هو أصل المشكلة عند تلك الطبقات التائهة؟ هل هو خوفها الطويل خلال عيشها وصمتها في زمن الاستبداد أم خوفها من الحاضر من الحرية ذاتها، واتضح أنها أثقل عليها من ماضِ لا عقل، ولا تفكير، ولا مسؤولية أمامها، ما دفعها للهروب من الذات والعودة إلى الوراء، فهل بدأت تستنتج تلك الطبقات أن العيش بخوفٍ في كنف المستبد خيرٌ من عيش بخوف في زمن الحريات؟ هل المشكلة في الحريات بحد ذاتها أم في عدم الخلاص من الخوف في جميع الأمكنة والظروف والأحوال؟

المشهد يبدو معقداً والمشكلة مركبة بين سياسية ونفسية واجتماعية، والرابط بينهما هو الخوف من كل شيء، وتغييب وتعطيل العقل لفترة طويلة من الزمن، نتكلم عن شرائح معينة داخل المجتمعات السورية تلك التي انصدمت من زوال الاستبداد بلحظة زمنية لم تستوعب بعد داخل عقولها، لسبب بسيط أنّ تلك العقول كانت معطلّة، وغير مهيئة فيزيولوجيا لاستيعاب تلك اللحظة، بل تحتاج إلى زمنٍ آخر غير معلوم. غير أنّ معالمها الأولى ستتضح عندما تظهر مؤشرات عودة التفكير حينها سنعلم أنّ العقول عادت من رحلة التيه واستقرت في مكانها الصحيح ودخلت بمرحلة التعافي من عقدة التغيير والتعامل مع الحريات.

اترك رد

عاجل