فكّر قبل أن تنشر!

فيصل القاسم11 أكتوبر 2025آخر تحديث :
فيصل القاسم
كاتب واعلامي سوري

لم يعد شعار «فكّر قبل أن تنشر» مجرّد نصيحة أخلاقية، ولا مجرّد تذكير بضرورة التحلّي بالمسؤولية الرقمية. عندما تُصدر الحكومة البريطانية، وهي واحدة من أعرق الديمقراطيات في العالم، تحذيراً رسمياً بهذا العنوان لاقى جدلاً هائلاً على مواقع التواصل قبل مدة، فإن الأمر يتجاوز النصيحة إلى إعلان مرحلة جديدة في علاقة الغرب بحرية التعبير — مرحلة يبدو أنها تسير نحو تقييد غير مسبوق، تحت شعارات براقة كـ«محاربة الكراهية والإرهاب»، و«مكافحة التضليل»، و«حماية الأمن القومي الرقمي».
من معاقل الحرية إلى أبراج المراقبة الرقمية: لطالما افتخر الغرب بأنه مهد الديمقراطية الحديثة وقلعة الحريات الفردية. من الثورة الفرنسية إلى الدستور الأمريكي، بُنيت شرعية الأنظمة الغربية على مبدأ أساسي: حرية التعبير خط أحمر. لكن المشهد اليوم تغيّر جذرياً. فالديمقراطيات العريقة بدأت تُعامل الكلمة المكتوبة على «فيسبوك» أو «أكس» كما تُعامل جريمة أمنية، والعبارة الجريئة تُراقب كما تُراقب الأعمال الإرهابية.
في بريطانيا، على سبيل المثال، تم اعتقال عدد من المواطنين بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي اعتُبرت «مسيئة» أو «تحرض على الكراهية»، حتى لو كانت تعبيراً عن رأي سياسي أو ديني. أحد أشهر الأمثلة كان اعتقال امرأة بريطانية لأنها غرّدت بانتقاد طريقة تعامل الشرطة مع ملفّات المهاجرين، فتم اقتيادها من منزلها بتهمة «الإساءة عبر الإنترنت». وحدث ولا حرج عن اعتقال أشخاص لمجرد أنهم كتبوا منشورات مؤيدة لغزة. وفي كندا، واجه أحد الأساتذة محاكمة بسبب تغريدة انتقد فيها الحكومة. أما في ألمانيا، فقد تمّت ملاحقة العشرات بتهمة «خطاب الكراهية الرقمي» بموجب قانون NetzDG الذي يُلزم شركات التواصل بحذف أي منشور «قد يكون ضاراً» خلال 24 ساعة، وإلا تتعرض لغرامات بملايين اليوروهات.
كل ذلك يحدث في بلدان طالما نصّبت نفسها حامية لحرية الرأي في العالم، وتدّعي الدفاع عن حرية الصحافة وحق التعبير. لقد دخلنا عملياً في عصر الحرية المراقَبة: من التحذير إلى العقوبة. التحذير البريطاني «Think Before You Post» لم يأتِ من فراغ. إنه جزء من تحوّل ثقافي وتشريعي واسع تشهده أوروبا والولايات المتحدة منذ منتصف العقد الماضي. فبعد موجات «الأخبار الكاذبة» وفضائح التأثير الروسي في الانتخابات الأمريكية عام 2016، بدأت الحكومات الغربية تنظر إلى الإنترنت بوصفه ساحة حرب لا تقل خطورة عن الميدان العسكري.

الرقابة الجديدة: ذكية، ناعمة، وخبيثة. الاختلاف بين الرقابة القديمة والجديدة هو أن الرقابة اليوم لم تعد تُمارس بالعصا، بل بالخوارزمية

وهكذا تحوّل شعار «مكافحة التضليل» إلى ذريعة لتشديد الرقابة على المحتوى، وتمرير قوانين تحدّ من النشر الحر. ففي فرنسا مثلاً، سُنّ قانون يسمح للحكومة بإغلاق أي حساب أو موقع «ينشر معلومات مضللة»، دون قرار قضائي واضح. وفي الولايات المتحدة، أصبح عمالقة التكنولوجيا كـ»ميتا» و«يوتيوب» و«أكس» يواجهون ضغطاً هائلاً من الكونغرس لتشديد الخوارزميات التي تحدد ما يُنشر وما يُخفى، حتى لو كان ما يُخفى رأياً سياسياً مخالفاً. بل إن الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما نفسه حذّر الشباب منذ سنوات قائلاً: «كل ما تكتبونه اليوم على وسائل التواصل سيبقى، وسيُستخدم ضدكم مستقبلاً، ربما عند التقدم لوظيفة أو منصب». هذه الجملة لم تكن تحذيراً بريئاً، بل كانت إشارة مبكرة لتحوّل ثقافي عميق: لم تعد حرية التعبير حرية مطلقة، بل صارت مرتبطة بثمن اجتماعي ومهني قد يدفعه المرء لاحقاً.
الرقابة الجديدة: ذكية، ناعمة، وخبيثة. الاختلاف بين الرقابة القديمة والجديدة هو أن الرقابة اليوم لم تعد تُمارس بالعصا، بل بالخوارزمية. المنشورات لا تُحذف بأوامر رسمية، بل تختفي «تلقائياً» لأن النظام اعتبرها «غير مناسبة». الحسابات لا تُغلق بقرار من المحكمة، بل «يُقلّل ظهورها» في خوارزميات فيسبوك أو أكس، حتى لا يراها أحد. إنها رقابة رقمية ناعمة، لكنها أكثر خطورة لأنها تجعل الصمت يبدو خياراً شخصياً، لا نتيجة إكراه سياسي.
وبينما يُساق المستخدم العادي للاعتقاد أنه يمارس حريته على الإنترنت، فإن كل كلمة يكتبها تُسجل وتُصنّف وتُستخدم لتشكيل «ملفه السلوكي» الذي قد يقرر مستقبله الوظيفي أو حتى إمكانية سفره. والمفارقة الكبرى أن الغرب يخشى الحرية التي صنعها، وهو اليوم يخشى من حرية التعبير التي لطالما افتخر بها. وبعد أن أطلق العنان للإنترنت باعتباره «فضاءً مفتوحاً للديمقراطية العالمية»، اكتشف أن هذه الحرية سلاح ذو حدّين: يمكن أن تفضح الأكاذيب الرسمية، وتكشف الفساد، وتعبّر عن الغضب الشعبي خارج السيطرة.
من هنا بدأ الخوف من «الحرية غير المنضبطة». أصبح المواطن الذي يغرّد ضد سياسات حكومته يُعامل كخطر محتمل على «الأمن الوطني الرقمي». والنتيجة أن العالم الغربي بات اليوم أقرب مما يظن إلى الأنظمة التي كان يهاجمها بدعوى القمع الرقمي.
نهاية الوهم: الديمقراطية إذاً ليست محصّنة. ربما كان من السذاجة الاعتقاد بأن الديمقراطيات الغربية محصّنة ضد التسلط. فكل نظام، مهما كان متحضراً، يخاف من الكلمة حين تهدّد استقراره أو صورته. اليوم نرى ما يشبه الانقلاب الهادئ على مبادئ الحرية. الغرب لم يعد يثق بشعبه كما كان، ولم يعد يرى في المواطن الحر مصدراً للقوة، بل مصدر تهديد يجب مراقبته وتوجيهه.
النتيجة أننا نعيش في عصر جديد: عصر الرقابة الذكية، حيث تُقمع الحقيقة باسم الحرية، ويُمنع الكلام باسم المسؤولية. الحرية لم تعد كما كانت. باختصار فإن تحذير الحكومة البريطانية «فكّر قبل أن تنشر» هو أكثر من شعار توعوي، إنه علامة على خوف جديد يجتاح العالم الغربي — خوف من الكلمة، من الرأي، من الحرية ذاتها. الحرية اليوم لم تُلغَ بعد، لكنها تُقلّص ببطء، تُختصر، تُشذّب، وتُحاط بشروط وقوانين وتأويلات حتى تفقد معناها الحقيقي.
لقد صار على الإنسان أن يفكر ألف مرة قبل أن يكتب جملة بسيطة، لا خوفاً من رقابة الدولة فقط، بل من رقابة المجتمع، الشركات، وحتى الذكاء الاصطناعي الذي يقرر ما إذا كانت كلماته «صالحة للنشر».
ربما لم يضق العالم مادياً، لكن الفضاء الرقمي الذي وعدونا بأنه «بلا حدود» أصبح اليوم أضيق من زنزانة فكرية.
إنه زمن «الحرية المُراقبة»، والويل لمن لا يفكّر قبل أن ينشر.

المصدر القدس العربي

اترك رد

عاجل