سوريا ما بعد الحرب.. خرائطُ بشرٍ لا تُقرأ بخطابٍ واحد

نزار الطويل27 ديسمبر 2025آخر تحديث :
سوريا ما بعد الحرب.. خرائطُ بشرٍ لا تُقرأ بخطابٍ واحد

لا يخطئ من يظنّ أن سوريا اليوم تقف على عتبة “مرحلة جديدة”، لكن الخطأ يبدأ حين نتعامل مع هذه المرحلة بوصفها انتقالاً سياسياً فقط، أو بوصفها لحظة احتفال مكتملة، الحقيقة أنّ سوريا خرجت من الحرب بواقع اجتماعي أكثر تعقيداً من أي توصيف سريع: لم تعد البلاد مجتمعاً واحداً بتجربة واحدة، بل صارت مجتمعاً واحداً بذاكرات متعدّدة، ومخاوف متراكمة، وحاجات متباينة، واختلافات في اللغة النفسية قبل اللغة السياسية.

وإن أي خطاب عام – سواء كان إعلامياً أو مجتمعياً أو رسمياً – إن لم ينطلق من قراءة حقيقية لـ “أنواع السوريين” وتجاربهم المتباعدة، سيتحوّل إلى خطاب مجتزأ، يتكلم مع فئة ويُقصي فئات، ويزرع – دون قصد – بذور نزاع جديد.

أولاً: السوريون ليسوا كتلة واحدة… بل خرائط حياة مختلفة

في المشهد السوري الراهن، يمكن تمييز مجموعات اجتماعية كبرى تشكّلت بفعل الحرب ومساراتها، وكل مجموعة تحمل احتياجاتها الأساسية ومنطقها الخاص في فهم الدولة، الأمن، العدالة، والكرامة.

  • العائدون من المهجر: صدام الاندماج والشكّ

العائد من دولة مختلفة لا يعود بجواز سفر فحسب، بل يعود بعادات ومقاييس جديدة: نظام، قانون، خدمات، شفافية نسبية، وطرق تنظيم للحياة اليومية.

أزمة هذه الفئة ليست “ضعف الانتماء” كما تُتهم أحياناً، بل شعوران متضادان: رغبة قوية بالعودة والمساهمة، وخوف من أن يُستقبل كمشتبه به، أو كـ “زائر” لا يحق له الكلام.

والحاجة الأعمق له هي الاعتراف بمشروعية تجربته وإتاحة اندماج طبيعي بلا تشهير ولا مزاودات.

وإذا أردنا اقتراح حلٍّ فلعلنا ننصح بإطلاق برامج إدماج مدني ومهني تُحوّل خبرة المهجر إلى قيمة وطنية: كمنصات تطوع منظّم، فرص استثمار صغيرة، ومجالس محلية على مستوى الحي أو البلدة وحتى المحافظة تفتح مقاعد للكفاءات العائدة، بدل تركها في فراغ اجتماعي يزيد الاحتقان.

  • العائدون من المخيمات والنزوح: الكرامة قبل السياسة

هذه الفئة لم تكن في “مناظرة سياسية” طوال سنواتها؛ كانت في امتحان يومي للبقاء: خيمة، طابور خبز، مرض بلا علاج، مدرسة مؤقتة، وأطفال كبروا قبل أوانهم، وعند العودة لا يعودون إلى وطن جاهز، بل إلى ركام: بيت مهدّم، شبكة خدمات منهارة، وأمل هشّ.

وإنَّ الحاجة الأعمق لهم هي: الكرامة المعيشية كشرط للاستقرار.

وربما يكون إعطاء الأولوية للحد الأدنى الخدمي (ماء، كهرباء، صحة، تعليم) مع آليات شكاوى واضحة، وإشراك العائدين أنفسهم في ترتيب أولويات أحيائهم، لأن التعامل معهم كـ “حالات” لا كمواطنين يصنع غضباً صامتاً.

  • من بقي داخل المدن: تفكيك الوصم وكسر ثنائية مع/ضد

من أخطر آثار سنوات السيطرة الأمنية السابقة أنها أنتجت تصنيفات أخلاقية مبسطة: من بقي = مؤيد، ومن خرج = ثائر، وهي معادلة لا تصمد أمام أي قراءة واقعية أو إنسانية، وتفتح الباب أمام ظلم جماعي قد يتحول إلى صراع مؤجل.

السوريون الذين بقوا داخل المدن لم يكونوا كتلة واحدة، ويمكن تقسيمهم إلى فئات واضحة، لكل منها سياقها وحدود مساءلتها.

  1. ذوي الشهداء وعائلات الثوريين الذين بقوا داخل المدن: هذه الفئة كانت مع الثورة وقدّمت تضحيات جسيمة، لكنها لم تستطع الخروج لأسباب قاهرة: فقدان المعيل، المرض، الفقر، أو الخوف من تفكك الأسرة. هؤلاء عاشوا القهر بصمت، ودفعوا الثمن مرتين: مرة بفقدان أبنائهم، ومرة بمحاولات التشكيك بانتمائهم اليوم.

الموقف الواجب: حماية هذه العائلات من أي وصم أو مساءلة أخلاقية، الاعتراف بأن البقاء لا يلغي التضحية ولا الانتماء.

  • ثوريون اضطروا للبقاء داخل المدن: وهم شريحة لا يستهان بها من السوريين الذين كانوا مع الثورة موقفاً وقناعة، لكن ظروفهم فرضت عليهم البقاء: عجز عن الخروج، مسؤوليات عائلية، أو تقدير شخصي بأن البقاء أقل خطراً من الخروج، هؤلاء عاشوا انفصاماً يومياً بين قناعاتهم وسلوك قسري فرضته الظروف، الثورة بالنسبة لهم لم تكن خروجاً جغرافياً، بل صموداً مكلفاً.

الموقف الواجب: الاعتراف بتعدد أشكال الانحياز للثورة، فتح المجال أمام اندماجهم الكامل دون مساءلات غير قانونية.

  • من حاضنة النظام البائد: تفريق لا يقبل التمييع: هنا يجب أن يكون التفريق حاسماً:
  • المجرمون ومرتكبو الانتهاكات: من شارك في القتل، والتعذيب، والوشاية، أو استغلال السلطة لإيذاء الناس، لا يمكن إدراجه ضمن أي منطق تصالحي قبل المساءلة.

فالمبدأ الواضح: أنه لا مصالحة بلا محاسبة، ولا استقرار بلا عدالة فردية قانونية موثقة.

  • الحاضنة من غير المجرمين أو المحيط الصامت: هذه فئة معقدة لا يجوز التعامل معها بعقاب جماعي، ولا تبرئتها أخلاقياً بشكل مطلق، لا يُدان شخص بذنب غيره، لكن الصمت لا يُحوَّل إلى بطولة.

المقاربة المتوازنة: لا تجريم جماعي، ولا تبييض للصمت بمجرد الصمت، بل مساءلة فردية، واندماج اجتماعي مشروط بالقانون والاعتراف بالواقع الجديد.

  • الخارجون من الاعتقال: العدالة شرط للمصالحة

المعتقل السابق لا يعيش “ذكرى” فقط؛ بل يعيش حالة إعادة تشغيل يومي للصدمة: صوت الباب، صورة غرفة ضيقة تستحضر صورة زنزانة، موقف أمني عابر، أو سؤال بسيط قد يولد انهياراً داخلياً، وهو لا يطلب امتيازاً، بل يطلب ضمانة: ألا يتحول الألم إلى إنكار، وألا تُدفن الحقيقة تحت خطاب: “لنطوي هذهِ الصفحة”، والحاجة الأعمق: الاعتراف والعدالة.

وهذا يوجب علينا المضيَّ في مسار عدالة انتقالية واقعي ومتدرّج: توثيق، حماية شهود، دعم نفسي متخصص، وتعويضات رمزية/وظيفية إن أمكن، والأهم: أن يُقال علناً إن كرامة المعتقل وحقه غير قابلين للتفاوض.

خاتمة

المعضلة السورية ليست فقط أن الناس مختلفون، بل أن كل فئة تعتقد أن تجربتها هي المعيار.

العائد من الخارج يرى أن الحل يبدأ من النظام والشفافية.

العائد من المخيم يرى أن الحل يبدأ من رغيف الخبز والسقف.

المعتقل يرى أن الحل يبدأ من العدالة.

المقيم يرى أن الحل يبدأ من الأمان والاستقرار.

وجميعهم على حق… لكن كل واحد يملك جزءاً من الحقيقة لا كلها.

هنا يأتي دور النخب المجتمعية والإعلام: من خلال صناعة “لغة وطنية مشتركة” تعترف بكل تجربة دون تحويلها إلى سلاح ضد الآخر.

سوريا تحتاج إلى عقل دولة… وصوت مجتمع

لا يمكن ترميم بلدٍ مكسور بخطاب واحد ولا ببطولة فردية، ما يلزم سوريا اليوم هو معادلة بسيطة وعميقة:

دولةٌ تحكم بالقانون، ومجتمعٌ يتعلم إدارة الخلاف، وإعلامٌ يبني وعياً لا معارك.

وإن كان السوريون قد دفعوا ثمن الحرب من أعمارهم، فإنهم اليوم يتحملون كلفة ما بعد الحرب من أعصابهم وثقتهم ومخاوفهم، والرهان الحقيقي ليس أن نتفق على كل شيء، بل أن نتفق على قاعدة واحدة: لا وجود لوطنٍ يستثني أبناءه.

اترك رد

عاجل