

تواترت أخيراً بيانات وتصريحات يطلقها الشيخ حكمت الهجري من السويداء، يكرر فيها مواقفه ومطالباته وشكره لرئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المطلوب لمحكمة الجنايات الدولية، مجرم حرب الإبادة الجماعية التي يشنها ضد الفلسطينيين في قطاع غزّة. وأصبح شكر نتنياهو ومدح إسرائيل متلازمة في خطاباته، تتكرّر في جميع المناسبات، لكن بياناً له حمل نفساً طائفياً حين وجه شكره “إلى إخوتنا الأكراد، وإلى إخوتنا العلويين في الساحل السوري الذين عانوا من بطش هذه الحكومة الإرهابية”، في استعداء مقصود للأكثرية، وحتى الذين تعاطفوا مع الضحايا.
قد يكون مفهوماً شكره نتنياهو، لأنه حاول إظهار الدولة العبرية وكأنها تحمي دروز السويداء، بينما هي في الحقيقة تستخدم أبناء السويداء ورقة لضرب وحدة سورية واستقرارها، واتخذت أحداث السويداء ذريعة لتنفيذ أجندتها، فقصفت قوات السلطة الجديدة حين أرسلتها إلى السويداء لفض الاشتباك بين مسلحيها ومسلحي البدو، وقصفت كذلك محيط قصر الشعب ورئاسة الأركان في دمشق. إضافة إلى التنسيق مع إسرائيل الذي يقوم به الشيخ موفق طريف زعيم الدروز فيها. كما أن التواصل الذي يربط الهجري بمسؤولين إسرائيليين لم يتم بعد الانتهاكات التي عرفتها السويداء في يوليو/ تموز الماضي.
وفي إقحام اسم الرئيس ترامب، بل وتقديمه على اسم نتنياهو، شيء من محاولة استدرار الانتباه أو التعاطف الأميركي، والإيحاء الموجه إلى أهل السويداء بأن ترامب يقف مع مطالب الهجري، لذلك استحق الشكر، فيما الحقيقة أن ترامب لم يقدّم شيئاً له، بل إن موقف الولايات المتحدة واضح حيال مسألة انفصال السويداء عن سورية، حيث سبق أن أوضح المبعوث الأميركي إلى سورية توم برّاك أن بلاده تدعم استقرار سورية موحدة، ولا تقف مع أي دعوة انفصالية فيها.
المطلوب هو الخروج من منطق الاستحواذ السلطوي، والقطع مع نزعة العصبيات القاتلة، التي تنتهجها المجموعات المسلحة والفصائل
تركز خطاب الهجري على “مطلب واضح بكيان مستقل يضمن العيش بكرامة وفق القانون الدولي، مع توثيق الانتهاكات التي ارتُكبت بحق الأهالي”، و”فتح الممرّات الدولية”. وليس معروفاً شكل الكيان المستقل، هل هو دولة أم أمارة أم سلطنة؟ وهل سيلتحق بإسرائيل مثلما يطالب بعض مريديه، أو بالأحرى هل ستقبل إسرائيل بضمه إليها، وذلك في ظل تعذر ذلك، بل وتعذر إنشاء ممر من الجولان المحتل إلى السويداء، بالنظر إلى اعتبارات عديدة، أهمها وجود رفض أميركي وسوري.
اللافت أن الهجري تحدّث في بيانه عن وجود “شعب” في السويداء، “عبّر بإرادته الحرّة عن مطلبه بكيان مستقل في مواجهة الظروف الاستثنائية التي تعصف بسورية”. ولعله أراد محاكاة مبدأ حق تقرير المصير للشعوب، ورفض كافة أشكال “الحكم الذاتي” و”الفيدرالية” و”اللامركزية”، والتمسّك بمطلب “الاستقلال التام”، ما يعني القطع التام مع الدولة السورية، والمطالبة بالانفصال عنها، وتسويق ذلك على أنه “حق مقدَّس، تكفله جميع المواثيق الدولية، ولن نتراجع عنه مهما كانت التضحيات. سنواصل النضال حتى يتحقق لشعبنا مستقبل آمن، كريم، وعادل”.
إذاً، لا يتحدث الهجري بوصفه زعيماً روحياً لطائفة الموحدين الدروز في سورية، بل بوصفه زعيماً سياسياً لشعب يقطن محافظة السويداء، ويريد أن يقوده إلى إقامة كيانه المستقل، لكن شعبه لا يشمل دروز دمشق وريفها، الذين يعيشون في بلدات جرمانا وصحنايا وأشرفية صحنايا وجديدة عرطوس، ولا دروز محافظة القنيطرة، وبالتأكيد لا يشمل أيضاً دروز جبل السماق وحارم في محافظة إدلب. وعليه، يحمل حق تقرير المصير وفق منطق الهجري في طياته نزعة استبعادية لجزء كبير من أبناء الطائفة نفسها التي يدّعي تمثيلها روحياً وسياسياً، ومن غير المعلوم إن كان سيطالب بتهجيرهم قسراً إلى دولته في السويداء، مثلما جرى تهجير آلاف من عشائر البدو قسرياً من مدينة السويداء والقرى والبلدات المحيطة بها على أيدي المليشيات التي تنضوي تحت زعامته.
لا يتحدث الهجري بوصفه زعيماً روحياً لطائفة الموحدين الدروز في سورية، بل بوصفه زعيماً سياسياً لشعب يقطن محافظة السويداء، ويريد أن يقوده إلى إقامة كيانه المستقل
لم تلق دعوات الانفصال التي يطلقها الهجري آذاناً صاغية، سواء داخل إسرائيل أم خارجها. وقد سبق أن دعا الشيخ موفق طريف الهجري إلى ضرورة العمل من أجل التوصل لحل مع دمشق، بعد لقاء مبعوث ترامب للشرق الأوسط ستيف ويتكوف في باريس، كما اعتبر في مقابلة مع قناة “يورونيوز” أن الحل في إشراك جميع المكوّنات السورية في العملية السياسية وصياغة دستور يضمن تمثيلها في البرلمان والحكومة، مؤكداً رفضه دعوات الانفصال أو تقرير المصير التي طرحها بعض الزعماء الدروز مثل حكمت الهجري.
ليس الانفصال عن سورية حلاً، ولا يقدم حلاً سياسياً واقعياً، ويصدر عن نهج عدمي، وقصر نظر، ورؤية مغلقة، ولا يبرّره شعور بالمظلومية وردات فعل غاضبة. كما لا يمكن الحصول عليه بناء على عصبية طائفية سياسية. والأهم أنه لا يعبر عن رغبات كل أبناء السويداء وتطلعاتهم، فقد أعلنت شخصيات من أبناء السويداء رفضها له، مثل الشيخ ليث البلعوس، ابن المرحوم الشيح وحيد البلعوس مؤسس فصيل رجال الكرامة، والشيخ سليمان عبد الباقي قائد فصيل “تجمع أحرار جبل العرب” في السويداء، الذي طالب بإيجاد حلول جذرية وإسعافية ترضي جميع الأطراف، والابتعاد عما وصفه بأوهام دولة مستقلة أو معابر يُروّج لها على حساب مصالح أهالي المحافظة، واعتبر أن “أمراء الحرب” لا يميّزون “بين سوري درزي وسوري سني وسوري مسيحي، وغايتهم هي مصالحهم”.
يكمن طريق الحل في السويداء في تقديم مبادرات سياسية واقعية، تقطع مع استخدام العنف، وتفتح حواراً بين السوريين حول مستقبل بلادهم في مرحلة ما بعد نظام الأسد، ولعل المطلوب هو الخروج من منطق الاستحواذ السلطوي، والقطع مع نزعة العصبيات القاتلة، التي تنتهجها المجموعات المسلحة والفصائل، وتبني نهج يساهم في بناء دولة تشاركية جديدة، وعدم الاستقواء بقوى الخارج لدعم مطالب لا وطنية، وكذلك عدم الاستناد إلى دعمه تحقيق الاستقرار في الداخل.