“أفلام الثورة السورية”.. استرجاع الجمهور وحقّ النَّظَر والحُكم

علي سفر16 سبتمبر 2025آخر تحديث :
علي سفر
تظاهرة أفلام الثورة السورية في دمشق برعاية وزارة الثقافة وبالتعاون مع دار الأوبرا

في ثلاث صالات دمشقية، “الدراما” في دار الأوبرا، و”كندي دمشق” و”كندي مشروع دمّر”، انطلقت تظاهرة “أفلام الثورة السورية”، التي أعلنها الفنان جهاد عبدو، المدير العام للمؤسسة العامة للسينما. الحدث يبدو استثنائياً، غير مسبوق، في سوريا التي عاشت ستة عقود من تحكم حزب البعث والعائلة الأسدية بالحياة العامة، ولا سيما منها النشاط الإبداعي.

منذ لحظة سقوط النظام بدأت الإنتاجات الفنية الممنوعة تُعرض في الأماكن العامة، فلم يظهر حتى اللحظة أن السلطة الجديدة قد منعت عملاً محسوباً على الثورة، وحتى تلك التدخلات من الرقابة تظهر مثل “ترند” في شبكات السوشال ميديا، لكنها سرعان ما تتلاشى بعد تدخلات من المعنيين بالحفاظ على المشهد نقياً من كل الأفعال القمعية السابقة. ولم يختلف الوضع بالنسبة للسينما، حيث جرى عرض عدد غير قليل من الأفلام في صالات سينمائية في حلب وحمص وطرطوس واللاذقية وغيرها، لكن هذه العروض كانت تُقام من خلال نشاط المجتمع المدني، وعبر اجتهاد من أصحاب الأفلام الذين عادوا إلى بلدهم في زيارات استكشافية وأرادوا مشاركة الجمهور بعض نتاجاتهم.

من فيلم “من أجل سما” – إخراج وعد الخطيب و إدوارد واتس

وعليه، فإن إعلان المؤسسة العامة للسينما، وهي الجهة التي بقيت لعقود طويلة تحتكر النشاطات السينمائية، هو نقلة مهمة على صعيد إحياء الفضاء العام والضخ فيه ليكون متاحًا لكل من صنع فيلماً في سياق النضال من أجل التغيير. لكن، وكالعادة في الوضع السوري الصاخب، ظهرت ردود أفعال على التظاهرة قبل أن تبدأ. فمن جهة أولى رأى بعض المهتمين بالأفلام الوثائقية أن لائحة العروض ضعيفة جداً، ولا ترقى لتكون معبّرة عن عنوان التظاهرة، حيث تغيب أفلام رُشّحت للأوسكار أو نالت بالفعل جوائز أخرى. 

قد يبدو هذا التوقف عند غياب بعض النتاجات، أشبه برغبة أكثر منه اعتراضًا، لكن مع معرفة أن جزءاً كبيراً من الأفلام الغائبة يحتاج إلى موافقات من الجهات المنتجة، وأن مسألة المشاركة تخضع أيضاً لحرية المخرجين وقرارهم في أن تكون حاضرة أو تغيب، يزول الالتباس في الموضوع، ويؤجل الأمر إلى فرص أخرى مقبلة، حسبما قال الفنان جهاد عبدو. ومن جهة ثانية، اعترض البعض على الخطوة، معتبراً أنها تخدم السلطة التي ارتكبت “مجازر” في الساحل وفي السويداء، وأن فناني الثورة قد أمسوا أدوات في يدها. وقفز البعض في انتقاده نحو المستقبل، فسأل عن موقف السلطة من أفلام محتملة سيذهب نحوها صنّاع الأفلام تتحدث عما جرى في المنطقتين المذكورتين سابقاً، فهل ستسمح المؤسسة بإنتاجها وعرضها؟

الخلط بين الموقف السياسي والقضية الإجرائية يبدو واضحاً في إشارة المعترضين، لكنه يشكّل موقفاً بناءً على الافتراض. هذا الأمر، ورغم عدم منطقيته، يطرح سؤالاً مهماً حول حرية العمل السينمائي، وهل ستذهب المؤسسة العامة للسينما نحو سن تشريعات تغير حال صناعة السينما وتفصلها عن القرارات السياسية للسلطة الحاكمة؟ ومن أجل العثور على أجوبة سديدة، لا يمكن ترك القضية بين أيدي مديري المؤسسات الفنية المكلّفين تسيير شؤونها، بل يجب النظر إلى الموضوع من زاوية الحريات ودسترَتها، وعدم ترك الأمر كيفياً يتعلق بمَونة المدير (أي مدير) على إدارة الشؤون السياسية، أي الجهة التي تدير فعلياً أوضاع مؤسسات الدولة وتراقب قرارات وزراء الحكومة.

من جهة أخرى، سأل البعض عمّا يمكن فعلياً لمؤسسة السينما أن تفعله من أجل إطلاق العمل السينمائي الوثائقي في سوريا، وأن تخلق موجة مختلفة عمّا كانت تنتجه قبل الثورة، إذ كان الوثائقي الذي يُصوّر بكاميراتها تحت هيمنة الترويج للسلطة البعثية والقيادة الأسدية، وكذلك الدعاية لمنجزات الحركة التصحيحية. وهي إذ حاولت أن تمضي في هذا التوجه المستحب من قبل جيل شاب لا يجد من يقدم له المساعدة في ظل الأزمة الاقتصادية العامة، فإن عليها أن تأخذ في الاعتبار ضرورة دمج جهود المخرجين الذين عملوا في الخارج سابقاً مع الكوادر الجديدة، ومنهم أولئك الذين يتخرجون الآن في المعهد العالي للسينما.

في كل الأحوال، تبقى تظاهرة “أفلام الثورة السورية” حدثًا مفصليًا، ليس فقط لأنها تفتح أبواب الصالات أمام نتاجات كانت محجوبة، بل لأنها تختبر جدية السلطة الجديدة في التعامل مع حرية التعبير. فالسؤال الأهم، لا يتعلق بعدد الأفلام أو نوعيتها، بل بقدرة المؤسسة العامة للسينما على ترسيخ قواعد جديدة تفصل الفن عن السلطة. وإذا نجحت هذه الخطوة في تجاوز الإرث البعثي، فإنها ستشكل بداية عهد مختلف لصناعة الصورة في سوريا. أما إذا بقيت رهينة الحسابات السياسية، فسيظل المشهد مجرد مساحة مؤقتة سرعان ما تنغلق.

التظاهرة، ورغم كل ما سيُساق حولها، حدث مختلف يطرح أسئلة واختبارات محتملة. فما يحدث اليوم أبعد من مجرد عرض أفلام؛ إنه محاولة لاستعادة معنى المكان العام، وإعادة تعريف الصلة بين السوريين وصورتهم في الشاشة. السينما هنا لا تُقاس فقط بجودة العمل أو جرأة المخرج، بل بقدرتها على إعادة الناس إلى مقاعدهم كجمهور يملك حق النظر والحُكم. لعلها بداية نسق جديد في الحكاية السورية، حيث يُستعاد الفضاء الثقافي كمساحة عيش مشترك، لا كمنبر دعاية أو أداة سلطة.

المصدر المدن

اترك رد

عاجل