سوريا بين التطبيع والتفكيك..قراءة تحليلية في تحولات السياسة الإقليمية والدولية

ما أسباب رفع ترمب العقوبات عن سوريا وما المطالب التي قدمها لأحمد الشرع

لجين مليحان25 مايو 2025آخر تحديث :

في 13 مايو الجاري، شهدنا لحظة سياسية غير مسبوقة عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال زيارته إلى الرياض، رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا منذ عام 2011، وأخرى تعود لعقود مضت، منذ 1979. هذا القرار لم يكن مجرد خطوة دبلوماسية عادية، بل مؤشر على تحولات جذرية قد تعيد رسم خريطة التحالفات في الشرق الأوسط.

في صباح اليوم التالي، استقبل ترامب في الرياض الرئيس السوري أحمد الشرع، بحضور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وبمشاركة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر الاتصال المرئي. اللقاء الذي استمر نحو 30 دقيقة، ظل غامضًا في تفاصيله، لكن البيت الأبيض كشف بعض جوانبه التي تعكس بوضوح التوجهات الأمريكية الجديدة.

ترامب دعا الشرع للانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية التي ترمي إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وطلب منه ترحيل المقاتلين الأجانب والفصائل الفلسطينية التي تصنفها واشنطن كإرهابية، بالإضافة إلى التعاون الأمريكي في مواجهة تنظيم داعش. ومن اللافت أن الرد السوري لم يكن حاسمًا بشأن التطبيع، ما يفتح الباب أمام احتمالات عدة في هذا الملف المعقد.

في الوقت نفسه، وجه الشرع دعوة واضحة للشركات الأمريكية للاستثمار في قطاع النفط والغاز السوري، ما يعكس رغبة دمشق في جذب دعم اقتصادي يعزز استقرار البلاد. وهذا بدوره يتقاطع مع ما أكده ترامب بأن العقوبات كانت تستهدف النظام السابق لبشار الأسد ولم يعد من المنطقي استمرارها، مشيرًا إلى أن رفعها يمنح سوريا “بداية جديدة”.

لكن ما الذي دفع ترامب إلى هذه الخطوة؟ وفق تصريحاته، جاء القرار استجابة لطلبات من الرئيس التركي وولي العهد السعودي، حيث بدا جليًا أن للرياض دورًا محوريًا في الدفع نحو هذا التحول، وهو ما يعكس تغيرًا في موازين القوى والتفاهمات داخل المنطقة.

هل يعني هذا أن السياسة الأمريكية تجاه سوريا ستشهد انفتاحًا حقيقيًا؟ وهل يمكن أن تتحول هذه الخطوة إلى نقطة انطلاق لإعادة ترتيب العلاقات الإقليمية؟ يبقى السؤال الأبرز حول مدى قدرة هذا التحول على الاستمرار وسط التعقيدات السياسية والداخلية في سوريا والمنطقة.ما لا شك فيه، أن رفع العقوبات عن سوريا هو إشارة إلى أن الإدارة الأمريكية تسعى إلى إعادة النظر في ملفات الشرق الأوسط بطريقة أكثر واقعية و براغماتية( pragmatism)، قد تتجاوز الكثير من المواقف التقليدية. وهذا بحد ذاته يفتح الباب أمام سيناريوهات جديدة تستوجب متابعة دقيقة لما ستسفر عنه الأيام القادمة.

“صفقة الظل: ما الذي قدّمه أحمد الشرع سرًّا لواشنطن مقابل إنهاء العزلة؟”

خلف الأضواء ووراء الكواليس، تدور تحركات سياسية واقتصادية مكثفة يقودها الرئيس السوري أحمد الشرع بهدف إعادة دمشق إلى حضن المجتمع الدولي، لا سيما الولايات المتحدة. وتعهدات مهمة أطلقها الشرع عبر قنوات متعددة تعكس رغبته الواضحة في تطبيع العلاقات مع واشنطن، وعدم ممانعته في التطبيع مع إسرائيل، فضلا عن علاقاته المتينة مع دول الخليج وتركيا. وهذا يشير إلى تحول استراتيجي واضح من معسكر إيران الذي كانت سوريا تقف إلى جانبه في عهد الأسد، إلى المعسكر الغربي المناوئ لطهران.

وتؤكد تقارير متواترة هذا الاتجاه، كان آخرها تقرير صحيفة “تايمز” البريطانية في 12 مايو الجاري، الذي كشف أن الشرع، في محاولاته إقناع ترامب برفع العقوبات، عرض فتح أبواب سوريا أمام الشركات الأمريكية لاستغلال الموارد الطبيعية في صفقة معدنية تشبه النموذج الأوكراني.

هذا “النموذج الأوكراني” – كما أوضحت الصحيفة – يعني منح الشركات الأمريكية امتيازات تفصيلية واسعة للتنقيب عن الثروات الطبيعية مقابل دعم سياسي وعسكري للحكومة القائمة. وقد أصبح هذا النموذج شائعًا في مفاوضات واشنطن مع دول غنية بالمعادن مثل باكستان والكونغو الديمقراطية، حيث تعرض هذه الدول مزايا استثمارية كبيرة للشركات الأمريكية في سبيل الحصول على دعم سياسي وعسكري أو تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، باتت هذه العروض تثير الشكوك داخل الإدارة الأمريكية، خاصة في عهد ترامب، الذي يرفض الانخراط في مغامرات عسكرية ويركز على توقيع عقود اقتصادية مربحة بعيدًا عن النزاعات. لذلك، تتحول هذه العروض من فرص استثمارية إلى فخاخ محتملة، خصوصًا في دول تعاني من عدم استقرار أمني وسياسي.

وفي السياق نفسه، كشف تقرير “تايمز” عن رغبة الشرع في بناء برج يحمل اسم “ترامب” في دمشق، تعبيرًا رمزيًا عن رغبته في تحالف واضح مع الولايات المتحدة وأن يكون جزءًا من المعسكر الأمريكي في الشرق الأوسط. ولم يقتصر الأمر على ذلك، إذ يقال إن الشرع عبر وسطاء، بينهم سعوديون، عن استعداده للانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية (التطبيع مع إسرائيل)، وحتى السماح بوجود أمني إسرائيلي في جنوب غرب سوريا، حيث توسعت القوات الإسرائيلية بعد سقوط الأسد في ديسمبر الماضي.

ولماذا أعتمد على تقرير صحيفة “تايمز”؟ ليس لأنها مصدر خالٍ من الأخطاء، لكن مضمون التقرير يتقاطع مع العديد من التسريبات الصحفية الكبيرة، ولا يتناقض مع المواقف العلنية للحكومة السورية. ففي 25 أبريل الماضي، نشرت صحف عدة تصريحات لعضوين في الكونغرس الأمريكي عقب اجتماع مع الشرع لمدة 90 دقيقة، أشاروا خلالها إلى انفتاحه على التطبيع مع إسرائيل.

وفي 7 مايو، خلال زيارة الشرع للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أكد الطرفان وجود محادثات غير مباشرة مع إسرائيل عبر وسطاء بهدف تخفيف التوترات. ونشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” في ذات اليوم تقريرًا حمل نفس المضمون، مشيرة إلى سعي الشرع للقاء ترامب لعرض تصور لخطة مارشال لسوريا، مستوحاة من خطة إعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، لكن مع تركيز على منح الشركات الغربية – وبالأخص الأمريكية – نصيب الأسد في إعادة إعمار سوريا، على حساب الشركات الصينية.

وعلى أرض الواقع، شهدت دمشق وصول رجال أعمال وشركات أمريكية تفاوضوا مع الشرع وأبدوا رغبتهم في بدء نشاط استثماري، ويقوم هؤلاء المستثمرون بممارسة ضغط على الإدارة الأمريكية من أجل رفع العقوبات، تمهيدًا لبدء مشاريع واسعة في سوريا.

منذ اللحظات الأولى لوصوله إلى السلطة، بدا الرئيس السوري الجديد عازمًا على إعادة توجيه سياسات بلاده بعقلانية واقعية، متجاوزًا ملفات الصراعات القديمة، ومستشرفًا فرص بناء مستقبل جديد لسوريا على قواعد اقتصادية وسياسية مختلفة.

“تقاربٌ غير مألوف: ما دوافع أحمد الشرع لفتح قنوات مع إسرائيل؟”

منذ وصوله إلى السلطة، بدا الرئيس السوري أحمد الشرع حريصًا على تفادي أي صدام مع إسرائيل، بل وأظهر توجهًا واضحًا نحو التهدئة معها، وربما أكثر من ذلك. هذا التوجه لا يأتي من فراغ، بل يستند إلى حسابات واقعية تتعلق بموازين القوى، وأولويات الداخل السوري المنهك بعد سنوات من الحرب.

الشرع يؤكد، في أكثر من مناسبة، التزامه باتفاق فك الاشتباك الموقع عام 1974 بين سوريا وإسرائيل، والذي ينص على إنشاء منطقة منزوعة السلاح بين الجانبين. وقد شدد مرارًا على أن الأراضي السورية لن تُستخدم منصة للهجوم على إسرائيل أو أي طرف آخر، في إشارة مباشرة إلى رغبة دمشق في تثبيت التهدئة جنوبًا.

المسؤولون السوريون الجدد يكررون نفس الرسالة. محافظ دمشق، ماهر مروان، قال في يناير الماضي: “مشكلتنا ليست مع إسرائيل الآن… لدينا أولويات أخرى.” وهي عبارة تلخص بدقة مقاربة النظام الجديد: لا صدامات مجانية، بل تركيز على إعادة الإعمار وإنهاء النزاعات الداخلية.

لكن كما يُقال: “الشيطان يكمن في التفاصيل”. السلام بين سوريا وإسرائيل ليس فكرة جديدة، وقد طُرحت سابقًا في عهد الأسد، لكن العقبة الأهم تبقى في شروط هذا السلام. هل سيصر أحمد الشرع على استعادة الجولان المحتل؟ أم يقبل باتفاق يتنازل فيه عنه؟

هذا السؤال لا يمكن تجاهله، لأنه لا يوجد زعيم سوري قادر سياسياً ولا شعبياً على التوقيع على اتفاقية تُفرّط في الجولان. وفي المقابل، من غير المتوقع أن توافق أي حكومة إسرائيلية على الانسحاب من الجولان، فما الذي يدفعها إلى ذلك أساسًا؟

كل هذه الاعتبارات تجعل موقف الشرع، رغم طبيعته الهادئة، جزءاً من معادلة أكبر. ورغم التناقض الظاهري بين التحولات السياسية لجماعة كانت ذات يوم تنطلق من خطاب عدائي تجاه إسرائيل، وبين سعيها الحالي لتوفيق أوضاعها معها، إلا أن هذا التحول يبدو منسجمًا مع ضرورات الواقع.

في الحقيقة، أي رئيس سوري – سواء الشرع أو غيره – سيكون أمامه نفس المعطيات:

أولا، اختلال موازين القوى الذي يجعل من الصعب بل من المستحيل خوض أي صراع مباشر مع إسرائيل حالياً. ثانيًا، وجود أولويات داخلية ملحة، وعلى رأسها تقليل معدلات الفقر، وتوفير الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية للمواطنين من غذاء ورعاية صحية وتعليم وأمن، إلى جانب الحفاظ على وحدة سوريا ومنع تفككها.

من هنا، فإن تودد الشرع لإسرائيل لا يُفهم على أنه ضعف، بل قراءة باردة للواقع الإقليمي والدولي. قراءة قد تفضي إلى هدنة طويلة، أو حتى اتفاق، لكن بشروط تبقى مرهونة بلعبة التوازنات الكبرى.

“كيف ترى التقارير الدولية ملامح سوريا اليوم بعد أكثر من عقد من الصراع؟”

ترسم التقديرات الدولية صورة قاتمة لسوريا بعد أكثر من عقد من الحرب. الأرقام لا تترك مجالاً للتجميل أو المواربة: نصف الشعب السوري نزح، الاقتصاد انهار، والفقر أصبح السمة الأبرز في حياة الغالبية الساحقة من السوريين.

بحسب الأمم المتحدة، فإن 13.5 مليون سوري نزحوا منذ اندلاع الحرب في عام 2011، أي ما يقارب نصف عدد السكان. منهم من اضطر للهروب خارج البلاد، ومنهم من تشتت داخليًا. إنها عملية تجريف ديمغرافي شاملة لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلاً.

أما عن الاقتصاد، فالوضع لا يقل مأساوية. وفقاً لتقديرات البنك الدولي، فقد انكمش الناتج المحلي الإجمالي السوري بنسبة تتراوح ما بين 60 إلى 80% بين عامي 2010 و2016. ولتوضيح ذلك: كانت قيمة الناتج المحلي في 2010 نحو 60 مليار دولار، وبالمنطق الطبيعي حتى في ظروف اقتصادية صعبة يُفترض أن ينمو بنسبة بسيطة سنويًا. لكن ما حدث كان العكس تمامًا، إذ هبط الرقم إلى نحو 6 مليارات دولار فقط، بحسب تصريحات وزير المالية السوري في يناير الماضي. هذا يعني أن الاقتصاد السوري فقد 90% من قيمته خلال 14 عامًا.

تدهورت مؤشرات الحياة على نحو مخيف. انخفض متوسط عمر المواطن السوري من 76 سنة إلى 55 سنة نتيجة العنف والحرب والأمراض ونقص الخدمات. أما الفقر، فقد طغى على كل شيء: 90% من السوريين تحت خط الفقر، و27% منهم تحت خط الفقر المدقع.

وبلغة الأرقام أيضاً، تشير تقديرات دولية إلى أن سوريا تحتاج إلى نحو 400 مليار دولار لإعادة إعمار بنيتها التحتية والمباني المدمرة. وإذا افترضنا – نظريًا – أن كامل الناتج المحلي الإجمالي الحالي (6 مليارات دولار) سيُخصص للإعمار، فإن سوريا ستحتاج إلى 67 عامًا لاستكمال عملية الإعمار. أما إذا خُصص 20% فقط من الناتج لهذا الهدف، فإن المدة ستصل إلى 330 عامًا، مما يجعل التعويل على الموارد الذاتية شبه مستحيل، ما لم تتغير معادلات التمويل والاستثمار الخارجي.

في ظل هذه الأوضاع، تبدو فكرة الصراع مع إسرائيل غير واردة نهائيًا، بل ومستهجنة لدى شريحة كبيرة من النخبة والمجتمع. ثمة أربعة أسباب لذلك:

1. الواقع الاستراتيجي والاختلال الهائل في موازين القوى، الذي يجعل من أي مواجهة مباشرة مع إسرائيل انتحارًا سياسيًا وعسكريًا.

2. الأولويات الضاغطة داخل سوريا، من فقر وجوع وتفكك مجتمعي، تجعل التركيز على الاستقرار والبناء أكثر أهمية من المغامرات الإقليمية.

3. التحالف الجديد للنظام السوري مع دول الخليج وتركيا، وكلاهما حليف لواشنطن، التي تملك مفتاح إعادة تأهيل سوريا دولياً. هذا التحالف يتطلب طمأنة إسرائيل وتجنب أي استفزاز.

4. تغير المزاج الشعبي، إذ بات كثير من السوريين يربطون الصراع مع إسرائيل بـ”إرث الأسد”، وهو إرث باتت قطاعات واسعة من السوريين ترفضه وترغب في تجاوزه.

باختصار، سوريا اليوم لا تملك ترف الحرب، ولا تحتمل أي مواجهة خارجية. ما تحتاجه هو استقرار، وإعادة إعمار، ويد دولية تمتد بشروط مقبولة لإنقاذ ما تبقى من دولة كانت ذات يوم في قلب الشرق العربي.

“ما الذي يدفع بعض دول الخليج لتأييد تقارب سوري–إسرائيلي؟”

التقارب السوري المرتقب مع الولايات المتحدة وإسرائيل لا يثير فقط دهشة المراقبين، بل يحظى بترحيب خليجي واضح، لما ينطوي عليه من مكاسب استراتيجية وأمنية واقتصادية. فدول الخليج العربي تنظر بعين الرضا إلى التحولات الجذرية التي يشهدها المشهد السوري بقيادة الرئيس أحمد الشرع، لما تمثله من فرصة تاريخية لفك الارتباط بين دمشق وطهران، الخصم التقليدي للمنطقة.

من الناحية الاستراتيجية، يدرك قادة الخليج أن استقرار سوريا تحت سلطة مناوئة لإيران يشكل حاجزًا منيعًا أمام محاولات طهران استعادة نفوذها في بلاد الشام. القطيعة بين سوريا وإيران كانت هدفًا دائمًا لدول الخليج منذ عام 1979، لكنها الآن تبدو أقرب إلى التحقق من أي وقت مضى. أما على المستوى الأمني، فثمة مصلحة خليجية ملحة في ضبط الحدود السورية التي طالما شكلت معبرًا للفوضى: إرهابيون، أمراء جريمة منظمة، وشحنات مخدرات عابرة للحدود، وعلى رأسها “الكبتاغون السوري” الذي تحول إلى كابوس أمني في المنطقة.

اقتصاديًا، تبدو سوريا، بعد رفع العقوبات واستعادة الاستقرار النسبي، سوقًا واعدة أمام رؤوس الأموال الخليجية. الفرص الاستثمارية الهائلة في قطاعات إعادة الإعمار، والبنية التحتية، والطاقة، تجذب أنظار المستثمرين من الخليج وخارجه.

“صفقة أوروبية مزدوجة: حقوق على المنصة وضغوط في الخفاء”

على الضفة الأوروبية، لا تختلف الحسابات كثيرًا. المواقف المعلنة تركز على ملف حقوق الإنسان، بينما الأجندات الواقعية تدور حول ملفات أخرى أكثر إلحاحًا، في مقدمتها “التخلص” – نعم، الكلمة المستعملة فعليًا – من ملايين اللاجئين السوريين.

في المقابل، تُبدي بعض الدول الأوروبية، لا سيما فرنسا، اهتمامًا بالكفاءات السورية المهنية والحرفية، لكنها تمثل استثناءً ضمن تيار أوروبي عريض يرى في التطبيع مع النظام الجديد في دمشق فرصة لضبط ملف الهجرة والتطرف.

اللقاء الذي جمع الرئيس أحمد الشرع بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 7 مايو الماضي، كان كاشفًا. ماكرون لم يُخفِ رغبته في الدفع باتجاه رفع العقوبات عن سوريا، لكن تدريجيًا، وبشروط أوروبية تتعلق بحقوق الإنسان… و”ما خلافها”.

و”ما خلافها” هنا هو بيت القصيد. فالمطلوب أوروبيًا واضح: إعادة الاستقرار لسوريا بسرعة – بأي وسيلة – من أجل ضبط الحدود، ومنع تسرب المتطرفين، وتهيئة الظروف لعودة اللاجئين، ثم إطلاق عمليات إعادة الإعمار، التي ستنفذها – بطبيعة الحال – شركات غربية تبحث عن أرباح في سوق مدمرة لكنها واعدة.

باختصار، سوريا اليوم تتحول من ساحة صراع إقليمي إلى ساحة مصالح دولية. والخليجيون، كما الأوروبيون، يراقبون هذا التحول بلهفة… ولكن لأسباب مختلفة.

تفاوت المصالح في سوريا: لماذا تسعى تركيا لتحقيق حضور كامل؟

بينما تتوزع مطامع القوى الكبرى والإقليمية في سوريا على ملفات بعينها—اقتصاد، أمن، لاجئون، نفوذ سياسي—تبرز تركيا كلاعب مختلف. ليس فقط لأن أنقرة طامعة بنصيب أكبر من “الكعكة السورية”، بل لأنها ببساطة تحلم بأن تكون سوريا بأكملها دولة تدور في فلكها. لا شيء أقل من ذلك يُرضي الطموح التركي.

بعيدًا عن الولايات المتحدة التي دفعت باتجاه رفع العقوبات عن سوريا ضمن حسابات اقتصادية واستراتيجية، والدول الأوروبية التي تخطط لإعادة اللاجئين وتشجيع شركاتها على الاستثمار في إعادة الإعمار، ودول الخليج التي ترنو إلى تقليص النفوذ الإيراني.. تبرز تركيا بطموحات تتجاوز كل ذلك.

تركيا تريد من سوريا أكثر مما يريده الآخرون مجتمعون: إعادة اللاجئين السوريين الذين باتوا يشكلون ضغطًا داخليًا عليها؛ محاصرة الأكراد ومنعهم من إقامة حكم ذاتي على حدودها الجنوبية؛ تصفية النفوذين الإيراني والروسي إن أمكن؛ ثم الظفر بحصة الأسد من مشاريع إعادة الإعمار المربحة. بل إن هناك بين بعض النخب السياسية التركية من يعتقد أن سوريا، أو على الأقل أجزاء منها، هي أرض تركية تاريخيًا ويجب أن تعود إلى “الوطن الأم”. وهذا تصور لا يقتصر فقط على روايات التاريخ، بل يظهر أحيانًا في خطابات سياسية وتوجهات ميدانية.

الطموح التركي يصطدم بالرؤية الإسرائيلية

لكن هذا الطموح التركي يصطدم مباشرة بالرؤية الإسرائيلية لسوريا، وهي رؤية تقوم على تفكيك لا إعادة بناء، وعلى الإضعاف لا الاستيعاب. إسرائيل لم تكن مرتاحة للنظام السوري حتى في أيام بشار الأسد، لكنها باتت أكثر عدائية تجاه النظام الجديد بعد سقوطه في ديسمبر 2024. منذ ذلك الحين، صعّدت إسرائيل عملياتها العسكرية داخل سوريا بشكل غير مسبوق. استولت على مناطق كانت تحت إشراف الأمم المتحدة ضمن اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974، ثم تمددت نحو مناطق كانت تسيطر عليها القوات السورية، واقتربت من مشارف العاصمة دمشق.

في غضون أشهر، شنت إسرائيل مئات الغارات الجوية على أهداف سورية، بهدف تدمير كل ما تبقى من البنية العسكرية للجيش السوري، بشقيها الدفاعي والهجومي. النتيجة: لا مقدرات هجومية تُذكر بعد الآن، ولا قدرة دفاعية فاعلة. وفي سابقة جديدة، أعلنت إسرائيل عن إنشاء تسعة مواقع عسكرية جديدة داخل الأراضي السورية، وأكد وزير الدفاع الإسرائيلي أن وجود الجيش الإسرائيلي هناك “سيستمر إلى أجل غير مسمى”.

أما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فأعلن في مارس الماضي عن خطة لإعادة تشكيل جنوب سوريا، من خلال إنشاء “مناطق نفوذ” عبر تحالفات مع الأقليات، وعلى رأسها الدروز، بالإضافة إلى إقامة “منطقة غازلة منزوعة السلاح” تغطي كل الجنوب السوري تقريبًا.

سوريا في مرمى الطموحات المتناقضة 

في ظل هذه المعادلات المعقدة، تبدو سوريا وكأنها ساحة مفتوحة لطموحات متضاربة: الخليج يريد الاستقرار والابتعاد عن إيران، أوروبا تريد وقف تدفق اللاجئين والإرهاب، أمريكا تريد الاستثمار وتحجيم روسيا، إسرائيل تريد التقسيم، وتركيا تريد السيطرة الشاملة.

“إسرائيل وسوريا: ما أسباب استمرار محاولات التفكيك رغم إشارات التقارب من ‘الشرع’؟”

“لن تنتهي حربنا الحالية إلا بتفكيك سوريا وهزيمة حزب الله وتجريد إيران من قدراتها النووية، وتطهير غزة من حماس، وتهجير مئات الآلاف من سكانها، واستعادة أسرانا”. هذا ما صرح به بتسلئيل سموتريتش، أحد أبرز وزراء الحكومة الإسرائيلية الحالية. تصريح لا يبدو أنه خرج عفويًا، بل يمثل رؤية استراتيجية تتجاوز مجرد رد فعل على هجوم 7 أكتوبر، إلى مشروع بعيد المدى يعيد تشكيل المنطقة من منظور أمني إسرائيلي صرف.

لكن لماذا سوريا؟ ولماذا هذا الإصرار الإسرائيلي على تقويضها، رغم الرسائل الإيجابية التي تبعث بها حكومة

الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، والتي تعلن فكّ الارتباط مع إيران، والانفتاح على دول الخليج والغرب، وحتى على إسرائيل؟

الإجابة – وفق ما تجمعه تقارير وتحليلات منشورة في مراكز بحث رصينة – تتمثل في خمسة دوافع رئيسية:

1. التفوق العسكري المطلق دون كلفة سباق التسلح

إسرائيل تدرك أن ضمان تفوقها العسكري لا يتحقق فقط بزيادة التسلح، بل بتقويض قدرات جيرانها. سباق التسلح مكلِف، بينما إضعاف سوريا – بعد سقوط الأسد – يضمن تفوقًا طويل الأمد دون استنزاف مواردها.

2. الضربة الوقائية والاستباقية

مهما كانت موازين القوى راجحة لصالح إسرائيل، فهي لا تتحمل حتى احتمال “الضرر المحدود”. لذلك تفضل أن تدمّر القدرات العسكرية السورية وهي في مهدها، وتمنع أي إمكانية لإعادة بنائها. وهذا يضمن لها أن لا يشكل النظام السوري الجديد – أو أي نظام قادم – تهديدًا عسكريًا ولو محتملًا.

3. عقيدة ما بعد 7 أكتوبر: الاحتلال الوقائي

الهجوم المفاجئ الذي نفذته حماس غيّر العقيدة الأمنية الإسرائيلية. باتت تقوم على تنفيذ ضربات استباقية، واحتلال أراضٍ واسعة تُحوَّل إلى مناطق عازلة. في حالة سوريا، هذا يعني السيطرة على أجزاء كبيرة من جنوبها، وعدم الاكتفاء بتدمير الجيش، بل ضمان عجزه الكامل عن العمل، حتى مع وجود نظام منفتح على إسرائيل مثل حكومة “الشرع”.

4. القلق من استقرار سوري جديد

إسرائيل لا تثق بالنوايا المعلنة للرئيس الشرع، وتخشى من أي نظام سوري مستقر، حتى لو لم يكن حليفًا لإيران. فوجود نظام قوي في دمشق، يتعاون مثلًا مع تركيا أو ينفتح على الخليج، يهدد برسم توازنات إقليمية جديدة تقلّص من حرية الحركة الإسرائيلية.

5. احتواء النفوذ التركي المتصاعد

النفوذ التركي في شمال وشمال غرب سوريا يثير قلقًا إسرائيليًا متزايدًا. إسرائيل ترى أن إضعاف السلطة المركزية في دمشق – وبناء تحالفات مع أقليات مثل الدروز – طريقة فعالة لكبح التمدد التركي، وحرمان أنقرة من فرض معادلاتها في الساحة السورية.

كيف تنفّذ إسرائيل هذا المخطط؟ الأدوات متعددة:

أولًا: الاحتلال الفعلي لمساحات واسعة داخل سوريا، ترغب إسرائيل إما في الاحتفاظ بها، أو استخدامها كورقة تفاوض مستقبلية، بحيث تتحول قضايا “الانسحاب” من الجولان المحتل إلى مفاوضات بشأن مناطق جديدة احتلتها بعد ديسمبر 2024.

ثانيًا: دعم وتوسيع التحالفات مع بعض الأقليات السورية لإضعاف الحكومة المركزية.

ثالثًا: الضغط للإبقاء على العقوبات الدولية على سوريا، خصوصًا الأمريكية، منعًا لتعافي الاقتصاد السوري وإعادة الإعمار.

رابعًا: الاستمرار في تدمير ما تبقى من البنية العسكرية السورية، في غارات شبه يومية.

اللافت أن إسرائيل عبّرت عن خيبة أملها الكبيرة من قرار إدارة ترامب الأخير برفع العقوبات عن سوريا، لأنه يقوّض استراتيجية العزل والتجويع.

أبعد من الأمن… هل هناك دوافع أخرى؟

قد يرى البعض أن هذه الأهداف الأمنية والعسكرية كافية لتفسير السلوك الإسرائيلي شديد العدوانية تجاه سوريا. لكنها، في الحقيقة، لا تفسّر كل شيء. فهذه الدوافع، رغم أهميتها، تشترك فيها معظم الدول التي تسعى إلى تحقيق “أمن مطلق” يضمن تفوّقها على جيرانها. لكن الفرق أن الدول الأخرى – حتى القوية منها – تُحجم عن السعي لتفكيك جيرانها خوفًا من العواقب، بينما لا تجد إسرائيل حرجًا في إعلان هذه الأهداف، والعمل على تنفيذها ميدانيًا، بدعم ضمني من توازنات دولية متواطئة أو صامتة. سوريا، في عين الرؤية الإسرائيلية الجديدة، ليست فقط خصمًا سابقًا أو حليفًا سابقًا لإيران، بل “مشكلة جيواستراتيجية” يجب تفكيكها، حتى لو جاء نظامها الجديد بحسن نوايا ورسائل تطبيع. هذه هي الحقيقة المرة التي لا تبدو إسرائيل مستعدة لتغييرها… حتى إشعار آخر.

اترك رد

عاجل