

في البلاد التي تُربّى فيها العقول على الصمت، يصبح المثقف كائنًا مريباً بطبيعته. يُعامَل كمن يخبّئ شيئًا ما، حتى وإن لم يملك سوى دفتر ملاحظات وذاكرة منهكة. في ظلّ أنظمةٍ تعتقد أن الوعي مؤامرة والفكر خيانة، يتحوّل المثقف إلى كائن يسير في حقل ألغام، كل خطوةٍ من كلماته قابلة للانفجار. ويُستدعى أمنيًا باسم “الحوار” وبدعوى “الاطمئنان”، ويُسأل بأسلوب ملؤه مزيج من الود والتهديد.
في إحدى تلك “الزيارات الودية” التي لا تُرفض ولا تُنسى، وجدت نفسي مدعواً إلى فرع أمني في دمشق. كان استدعاءً ناعمًا في لفظه، خشنًا في معناه. أحد الأصدقاء أسرّ لي أن مدير الفرع “مثقف ويعشق الكتب”، وكأنّ الثقافة هنا تُستدعى كعذرٍ مخفّفٍ. ثم همس بنبرة الخبير بأهوال ما وراء الأبواب المصفّحة بأن اصطحب معي كتبًا كهدية. نصحني إذًا بحمل ما يُلهي رجل الأمن قليلاً قبل أن يبدأ بأسئلته الوجودية. وامتثالاً للنصيحة، قررت أن أذهب ومعي “طبائع الاستبداد”لعبد الرحمن الكواكبي، وكتاب عن تاريخ الأندلس. لا أعرف ما الذي جعلني أختار هذين الكتابين بالذات. ربما هي سخرية القدر، أو نزوة المثقف الذي لا يتوب عن رموزه، حتى في حضرة من يملك حق إلغاء رموزه كلها.
استقبلني الرجل بحرارةٍ من تلك التي لا تُقاس بالدرجة المئوية، بل بعدد الكاميرات في الزوايا. مكتبه ضخم، قاتم، يذكّرك أكثر بمتحفٍ للموت منه بمكتب مسؤول. وضعْتُ الكتابين أمامه، ووقفت كطالبٍ في امتحان، قبل أن يسمح لي بالجلوس. وراح يقلب الصفحات ببطءٍ مريب. وكان ينظر إلى غلاف الكتاب الأول، ثم إليّ، ثم إلى الكتاب الثاني، ثم إليّ مجدداً. حينها بدأ العرق يسلك كل الطرق الممنوعة في جسدي، ونقص الهواء في مكتب التحقيق. وفجأة، وضع الكتابين جانبًا، واستقام في جلسته، قائلاً بنبرةٍ تشي بولادة فكرة عظيمة: “عندي سؤال مهم جداً… أجبني عنه بصراحة.” حينها ابتلعت لعابي كما يبتلع المرء تهمته، وقلت بصوتٍ ملؤه الخوف: “تفضل…”
رفع الكتابين أمامه كمن يعقد مقارنة بين الخير والشر، وقال: “الكتابان من الحجم نفسه وعدد الصفحات، لكن…” وسكت برهة، ثم أردف قائلاً، وهو يرمقني بنظرة المنتصر: “ما تفسيرك أن طبائع الاستبداد أثقل وزنًا من تاريخ الأندلس؟” في لحظة، وجدت نفسي غارقًا في البحث في المعاني العميقة، فهل يقصد أن الاستبداد أخطر من التاريخ؟ أو هل يريد توريطي في مقارنة غير بريئة؟ أو هل هذا امتحان في النقد السياسي؟ وأخيرًا، استجمعت ما تبقّى من شجاعتي قائلاً بأنه ربما لأن مضمون كتاب الاستبداد أثقل من مضمون التاريخ. رمقني حينها بابتسامةٍ مائلة، وضحكةٍ تهكميةٍ، ثم قال: “لا يا أستاذ… الغراماج! ورق كتاب الاستبداد أثقل من ورق الأندلس!” ثم انفجر ضاحكاً على طرفته التي زلزلت عظامي.
وبعد سبع ساعات من التحقيق العبثي حول “أعمالي الكاملة”، خرجت من مكتبه وأنا أجرّ خلفي كل ما تبقى من احترامٍ للعقل. وأدركت يومها أن بين المثقف ورجل الأمن واديًا من انعدام الفهم لا يُردم. فالمثقف يزن الأمور بالفكرة، بينما رجل الأمن يزنها بالغرام. ومنذ ذلك اليوم، كلما حملت كتابًا، أتحسس وزنه مرتين، مرة لأتأكد من الورق، ومرة لأتذكر من يملك الحق في تفسيره.
لم تكن الحكاية نادرة. فالمثقف في عهد الاستبداد الأسدي كان يعيش مأساة مزدوجة، فهو يُستدعى بصفته العقل، ويُحاسب بصفته الشبهة. هو مخلوق يشكّ فيه الجميع، العامة لأنهم لا يفهمونه، والسلطة لأنها تفهمه أكثر مما يجب. فكم من شاعرٍ استُدعي لأنه كتب عن “ليلٍ طويل”، فاعتبره المحقق استعارة يرمز من خلالها إلى “القيادة الحكيمة”. والمثقف الصامت يُعتبر مريبًا، والمثقف الصاخب يُعدّ مستفزًا، والمثقف المعتدل يُراقَب لأنه غير واضح النيات. في هذا المناخ، تتحول المعرفة إلى عبءٍ أمني، والقراءة إلى نشاطٍ مشبوه. فحين تغيب السياسة عن العقول، يحضر الأمن ليحلّ محلها. فهو يفسّر الشعر، ويزن الروايات، ويحدّد الغراماج المناسب لكل فكرة. فالاستبداد لا يخاف البنادق، بل يخاف الكلمات. لأن الرصاص يُميت الأجساد، أما الكلمات فتُميت الوهم. لذلك لا يزعج السلطة المثقف حين يعارضها فقط، بل حتى حين يفكر.
تذكّرت الكواكبي حين خرج من حلب مطارَدًا لأنه كتب عن “طبائع الاستبداد”، ومات بعدها في مصر مسمومًا. ذلك الرجل الذي فهم باكرًا أن الاستبداد يبدأ من لحظة يسأل فيها رجل السلطة سؤالاً عن وزن كتاب، ويمنع في الوقت ذاته التفكير في معناه.
ما هو أخطر من الاستبداد الرسمي، هو ذلك الاستبداد الطوعي الذي يتبرّع به بعض المواطنين، بلا راتب ولا منصب. فلقد تغيّرت اليوم السلطة، لكن يبدو أن العلاقة العبثية بين المثقف والمسؤول لم تتبدّل. فاليوم، لم تعد الحاجة إلى فرعٍ أمنيٍّ يراقب العقول، فقد خرجت الجيوش من مكاتبها لتستقرّ في شبكات التواصل. حيث يتصدّى “المتملقون الجدد”، وهم متطوعون لا مجندون، لأي رأيٍ نقديٍّ كما لو أنه غزوٌ أجنبي. يدافعون عن كل زلّة للحكم الجديد دفاع العاشق عن معشوقٍ لا يراه، ويهاجمون كل ناقدٍ بوحشيةٍ لفظية تذكّرنا بزمنٍ حسبنا أنه انقضى.
إنها مأساة تتكرّر. فحين يصفّق المواطن بدل أن يسأل، ويهاجم من ينتقد بدل أن يناقش، يصبح الاستبداد ثقافة وطنية لا نظاماً سياسيًا فقط. وما كان يوماً يُمارَس في أقبية المكاتب صار اليوم يُمارَس في العلن، تحت رايات الوطنية وحماية الاستقرار. في هذا المشهد، يجد المثقف نفسه بين نارين، سلطة لا تحتمل النقد، وجمهور يرى في التفكير جريمة. وقبل أن تكتب عن الاستبداد، تأكد من نوع الورق، فقد يكون الوزن وحده تهمة.