

لعل من أهمّ موبقات الإرث الأسدي في سوريا أنه لا يمكن اختزاله بالخراب المادي الذي طال البلاد، ولا كذلك بعمليات القتل التي طالت مئات الآلاف من السوريين وشرّدت أضعافهم، بل ثمّة في هذا الإرث ما هو أشدّ وباءً وفتكاً في النفوس والعقول على حدّ سواء.
ونعني بذلك العديد من المفاهيم وطرائق التفكير والمقولات التي شكّلت – عبر عقود مضت – وعيَ أجيال متتالية من السوريين، وخاصة في ظل استفراد السلطة واحتكارها للسياسة وتحكّمها ومصادرتها لجميع وسائل الإعلام وأي نشاط آخر يُعنى بالشأن العام، وبسْط سطوتها وهيمنتها على جميع مفاصل الحياة الثقافية والاجتماعية، ما أدّى بالتالي إلى فرض ثقافة نمطية لا تنبثق من السياق الاجتماعي والحياتي لسائر الناس، وإنما من نزوع السلطة الهادف إلى توقير مقولاتها في أذهان المواطنين، باعتبار تلك المقولات او المفاهيم حقائق ترقى إلى درجة البدهيات.
لعل من أبرز تلك المقولات التي استمدّت السلطة الأسدية منها مبرّرات جميع أشكال سلوكها حيال الشعب السوري طيلة عقود من الزمن هي سردية (الممانعة والمقاومة) التي جعلت منها (ساطوراً) تُجهز به على رؤوس من تخوّل لهم أنفسهم الاحتجاج أو الانتقاد لأي سلوك سلطوي، وربما استطاع حافظ الأسد التأسيس لهذه السردية – سياسياً – عبر استراتيجيته القائمة على مفهوم (اللاسلم واللاحرب) منذ عام 1974 ، ثم أضحت منهجاً خارجاً عن سياق المواجهة مع إسرائيل، بل ذو صلة بطبيعة العلاقة بين الشعب والسلطة، أي تحوّلت سردية (الممانعة) إلى مفهوم عام يجب ان يحظى بقناعة وإيمان جميع السوريين، وفحواه أن التصدّي لإسرائيل وأطماعها يقتضي – حكماً – إذلال الشعب السوري والإمعان في التغوّل على حقوقه وانتهاك كرامته، وهكذا بات يُنظَر إلى أي استحقاق يطالب به المواطن سواء أكان استحقاقاً سياسياً أو حياتياً عاماً، باعتباره استحقاقاً نافلاً أمام الاستحقاق الأكبر المتمثّل بالمواجهة الكبرى مع الكيان الصهيوني.
بالطبع لم تكن مقولة (الممانعة والمقاومة) بعيدة الصلة عن جذرها الإيديولوجي المتمثل بالفكر القومي – في شطره التقليدي – الذي كان مهجوساً على الدوام بالشعارات والأهداف القومية الكبرى (الوحدة العربية – تحرير فلسطين)، غيرَ عابىءٍ – في الوقت ذاته – لأي شاغلٍ وطني ذي صلة بمسائل التنمية المجتمعية أو الحريات أو حقوق الإنسان، مع التأكيد على أن ارتباط الدولة الأسدية بالإيديولوجيا القومية لا يعدو كونه استثماراً وظيفياً كان يفضي على الدوام إلى نتائج شديدة التناقض بين ما تفعه من شعارات وبين سلوكها على الأرض . كما كانت النبرة المتصاعدة في رجْم النزعة (القطرية) تجسّد حافزاً إضافياً لاستبعاد أي حالة من البناء الوطني أو التأسيس لنمو مجتمعي قائم على العدالة وسلطة القانون والحفاظ على حقوق المواطنين بوصفهم المالك الحقيقي للدولة وليس بوصفهم قطيعاً بشرياً يجب تسخير جميع طاقاته لخدمة شعارات لا تعود بالنفع سوى على الحاكم ذاته.
استمرّ العدوان الإسرائيلي بالتصاعد إلى ان بلغ حدّ الاستيلاء على بعض القرى والبلدات والاعتداء على المواطنين وممتلكاتهم، بل و طرْدهم من قراهم ومنعهم من الاقتراب من حقولهم وأماكن عملهم.
مع زوال نظام الأسد، وتزامناً مع الساعات الأولى لهروب رأس النظام ( 8 – 12 – 2024 ) بدأ الكيان الصهيوني بعدوان عسكري واسع النطاق استهدف العديد من المواقع والمنشآت العسكرية في عدد من المدن والبلدات السورية، بذريعة أن تلك المواقع كانت تتموضع بها ميليشيات إيران المتمثلة بحزب الله ومشتقاته الطائفية في سوريا، ثم ما لبث هذا العدوان أن تحوّل إلى تغوّل برّي داخل العمق السوري، متجاوزاً الخطوط التي حددت معالمها اتفاقية فك الاشتباك بين إسرائيل ونظام الأسد عام 1974 ، وبات واضحاً أن زوال نظام الأسد أحدث فراغاً أمنياً أوجب على إسرائيل أن تعيد هندسة أمنية لكيانها ولكن وفقاً لاستراتيجية جديدة تتقوّم على أمرين:
يتجسّد الأول بتجريد الدولة السورية من جميع وسائل القوة الرادعة عسكرياً، عبر استهداف وتدمير جميع أنواع الصواريخ والأسلحة المتوسطة والثقيلة والقواعد العسكرية ومراكز البحوث العلمية والتصنيع الحربي. ويتجلى الثاني بتقسيم الجغرافيا السورية إلى كانتونات، من خلال مغازلة الكورد تارةً والدروز تارةً أخرى، في مسعى تحريضي الهدف منه استباق أي خطوة سورية نحو المصالحة الوطنية وتوطيد سلطة الدولة.
إلى ذلك، استمرّ العدوان الإسرائيلي بالتصاعد إلى أن بلغ حدّ الاستيلاء على بعض القرى والبلدات والاعتداء على المواطنين وممتلكاتهم، بل و طرْدهم من قراهم ومنعهم من الاقتراب من حقولهم وأماكن عملهم، الأمر الذي أحدث ردّة فعل شديدة من جهة المواطنين الذين اضطر البعض منهم للدفاع عن أُسرهم وممتلكاتهم، ما دفع قوات الاحتلال للتنكيل بهم بارتكابها مجزرة أودت بأرواح تسعة مواطنين وإصابة العشرات من أبناء مدينة درعا.
لا شك أن ما تسعى إليه إسرائيل على المدى البعيد لا يمكن رسم ملامحه بدقة، من جهة عدم محدودية التوسع الصهيوني، وبالتالي لا يمكن الركون إلى أن ثمة نقطة سينتهي عندها الكيان الصهيوني الذي يعتقد أن سلامة وجوده قائمة – حكماً – على إبادة مستمرة للآخرين.
يجد السوريون أنفسهم مرة أخرى في جدال لا يخلو من العقم أمام إحدى موروثات الوباء الأسدي (مقولة الممانعة) ليس بسبب جهلٍ بمضامينها أو تعدّدٍ في دلالاتها أو اختلاف في تأويلها، ولكن رغبةً من كل طرفٍ بتوظيفها وفقاً للوجهة التي تخدم رأيه وقناعاته.
وحيال ذلك، فقد بات العدوان الإسرائيلي يجسّد تحدّياً كبيراً إلى جانب التحدّيات التي تواجهها القيادة السورية الجديدة في الوقت الراهن، ولعله من غير المُستغرب أن نجد ردّة فعل شعبية عارمة تعلن تضامنها مع أهالي درعا، سواءٌ من خلال المظاهرات التي عمّت المدن والبلدات السورية أو من خلال المواقف الرافضة والمندّدة بالعدوان، ولكن اللافت في الأمر أن ردّة الفعل الشعبية المتضامنة مع سكان الجنوب السوري والرافضة للعدوان الصهيوني، قد لاقت من جهة أخرى انتقادات عديدة من جهات سياسية وأفراد وجماعات، بحجة أن ردّة الفعل هذه هي استنساخ آخر لسردية (الممانعة) ذات المنتج الأسدي، ثم يجد أصحاب هذا الاحتجاج أن إشغال الرأي السوري العام بالعدوان الصهيوني جاء لتشتيت الرأي عمّا حدث في الساحل السوري من مجازر بحق مواطنين من الطائفة العلوية، فضلاً عن وجود استحقاقات أخرى تواجه السلطة الحاكمة ولا يجوز إغفالها أو التغاضي عنها تحت غطاء العدوان الإسرائيلي.
وهكذا يجد السوريون أنفسهم مرة أخرى في جدال لا يخلو من العقم أمام إحدى موروثات الوباء الأسدي (مقولة الممانعة) ليس بسبب جهلٍ بمضامينها أو تعدّدٍ في دلالاتها أو اختلاف في تأويلها، ولكن رغبةً من كل طرفٍ بتوظيفها وفقاً للوجهة التي تخدم رأيه وقناعاته، وربما ولاءاته أو انتماءاته، وفي هذا السياق يمكن التأكيد على أن من أكثر مظاهر الشناعة الأخلاقية هي تشويه الحقائق عبر اجتزاء او اختزال المشهد السوري الكبير والمتشعب في بقعة صغيرة لا ترى العين سواها، إذ إن مجازر الساحل السوري لا يمكن إنكارها أو تبريرها، فهي حقيقة واقعة وليست رواية تاريخية، تماماً كما أن وجود فلول النظام واستهدافهم لعدد غير قليل من الأرواح سواء أكانوا من الأمن العام أم مدنيين، حقيقة أيضاً وليست رواية كيدية أو مُلفّقة، والمطالبة بمحاسبة الجناة من الطرفين وإحقاق العدالة هو واجب ومسؤولية السلطة الحاكمة، وهذا ما ينبغي الدفع باتجاهه، ذلك أن انتصار العدالة يتجسّد بمحاسبة الجاني وإعادة اعتبار الضحايا وليس من خلال الترويج والتجييش لانتصار سردية مظلومية على أخرى. ولئن كانت الحكومة تواجه استحقاقات لا ينبغي إغفالها أو تجاوزها، فإن العدوان الإسرائيلي هو أيضاً أحد تلك الاستحقاقات التي تجب مواجهتها أيضاً، وأخيراً إذا كانت مقولة (الممانعة) هي عبارة عن (كذبة أسدية) فإن العدوان الصهيوني الراهن هو حقيقة واقعة.