فيروز بوصفها مشروعاً سياسياً حياً

عمر قدور23 نوفمبر 2024آخر تحديث :
عمر قدور

لم تنل الحرب الدموية على لبنان وغزة من الاحتفاء الكبير الذي استبق ورافق عيد ميلاد فيروز التسعين، فشغلت “السفيرة إلى النجوم” حيّزاً يصعب أن يشغله أحد من مجايليها، سواء في الميديا أو في السوشيال ميديا. ويمكن الجزم بأن الاستثناء الفيروزي قد فرض نفسه فوق الظروف العامة، ففيروز ليست انشغالاً لاهياً عابثاً عمّا يحدث، وفنّانة بصورتها الرصينة المعروفة لا يوجد ما هو مذموم في تجربتها، لأنها أصلاً خارج المتع التي تناوبت على ذمّها أيديولوجيات من اليسار واليمين.

الحفاوة بفيروز مشرقية في المقام الأول، أو شامية بالتعريف القديم لبلاد الشام، ويبرز منها على نحو خاص تلك الحماسة السورية التي تضاهي حماسة اللبنانيين أو تتفوق عليها. ويجوز القول إن السوريين مبكراً نافسوا اللبنانيين على مشروعهم الغنائي الأهم، وهذا في جانب منه يعكس إنكاراً سورياً لاستقلال لبنان، مثلما ينبئ بعجز سوري عن اجتراح نموذج خاص خارج القلعة الطربية الحلبية. وكانت الأخيرة قد انفتحت منذ بدايات القرن العشرين على التبادل مع المؤثرات المصرية، بخلاف باقي مناطق سوريا، وباستثناء منطقة الفرات التي بقيت وفية للون فني مستقل ومغاير.

أهمية محاولة الهيمنة السورية على فيروز تأتي من كون “اختراع” فيروز كان موافقاً في الأصل لـ”اختراع” لبنان، أي أنها مشروع “أمة”، وبدلالة لا تقلّ أبداً عن دلالة الوصف نفسه عندما يُطلق على “السيدة” أم كلثوم. أي أن فيروز، منذ منتصف الخمسينات، صارت رمزاً لمشروع فني يحاكي صورة لبنان الذي راح ينهض آنذاك. ومن المفيد التذكير بأن النهوض اللبناني كان بالتزامن مع عدم استقرار سياسي في دمشق، ومع صعود الناصرية في مصر ومشروعها العروبي. هكذا قفزت بيروت “الليبرالية” إلى صدارة لا تغيب عنها السياسة، فـ”سويسرا” الشرق لم تكن محايدة، وكان هواها الغربي مخالفاً الحيرة السياسية في دمشق، وعلى الضد من العداء للغرب الذي راح يتفاقم في مصر منتصف الخمسينات.

كما هو معلوم، زكّى حليم الرومي صوت فيروز للأخوين رحباني كمؤدّية للأغاني الخفيفة الراقصة، ورغم أنها ستؤدي شيئاً من الموشّحات والموّال إلا أن الألوان الطربية لم تكن في صميم تجربتها التي لطالما اختُزلت بكونها مزيجاً من المؤثرات الموسيقية الغربية والفلكلور الشعبي المحلي. وفق هذا الاختزال، تبدو التجربة الرحبانية توليفاً ناجحاً بين مؤثرات حداثية وافدة وأخرى ريفية فلاحية محلية. أي أن التجربة الرحبانية كانت تتموضع على غرار نهضة لبنان، بوصفها نهضة أبناء الأرياف وتطلّعهم إلى الحداثة، وهو ما عُبِّر عنه كثيراً بالقول المباشر إن لبنان جسر بين الشرق والغرب، أو إنه بمبالغة فيها شطط كبير: قطعة من الغرب في الشرق.

التوليفة نفسها تضيء على جانب مهم من “فيروز السورية”، والتي لم تكن فقط محض محاولة للهيمنة. فمنذ انقلاب البعث تحديداً، صعدت في سوريا أيضاً “النخبة الفلاحية” المتطلّعة إلى التحديث، وإن كانت شعارات البعث بطبيعتها مضادة للغرب. هذه النخبة وجدت في فيروز الاقتراح الفني الملائم، فوق أنه يسدّ ثغرة عجزها عن تقديم أو رعاية اقتراح سوري خاص، وهو ما لم يكن ممكناً بغياب الحد الأدنى الضروري من الحرية، وبتغييب المسألة الوطنية تماماً لصالح الشعارات القومية. وربما انطوت النسخة البعثية من فيروز على شيء من المنافسة مع مصر، لتكون “السيدة” الصاعدة رمزاً يضاهي (من موقع الاختلاف) النسخةَ الناصرية من أم كلثوم.

ولئن بدا التوليف الغنائي سهلاً، بين المؤثرات الغربية والفلكلور الفلاحي، فإن التوليف بينهما في الواقع لم يكن متاحاً. لعل هذا هو وجه الاختلاف بين لبنان الواقعي ولبنان الرحباني الفيروزي، والفجوة بينهما ستتسع بدءاً من السبعينيات، وعلى ذلك أتى بعض النقد للتجربة الفنية لكونها مفارقة للواقع الذي سرعان ما انزلق إلى الحرب الأهلية، من دون أن ينتبه أصحاب النقد كفايةً لمعضلة التوليف بين النخبة الفلاحية والحداثة. أما سوريا، في استقرارها الأسدي، فكانت بعيدة عن المساءلة اللبنانية لفيروز، لذا حافظت صاحبة “الصوت الملائكي” بلا هوادة على مكانتها لدى السلطة ومعارضيها اليساريين.

في سياق غير منفصل تماماً، كانت أم كلثوم قد نالت إثر هزيمة حزيران 1967 سهام النقد من اليساريين والإسلاميين، لاعتبارات مختلفة بين الجانبين، ولاعتبارات مشتركة بينهما. مع ذلك تبقى المقارنة شكلية بين “السيدتين”. إذ يصعب القول بوجود أيديولوجيا كلثومية على غرار الأيديولوجيا الفيروزية، والكثير الذي قيل ودُبِّج في امتداح صوت أم كلثوم وتأثيرها مختلف عن الأيديولوجيا الفيروزية، سواء في شقّها اللبناني كمشروع أمة، أو في الشق السوري الذي وجد فيها تمثيلاً على العموم لتطلعات النخبة الفلاحية، أي بعد تجريدها من لبنانيتها.

جزء، على سبيل المثال، من الأيديولوجيا الفيروزية يتجلّى في النظر إلى الوطن كمعطى سابق، لا كمنجز يتحقق. وهو بهذا المعنى مطابق للفهم الفلاحي الذي يركن إلى خيرات الطبيعة “المعطاء”، من دون تفكير فيما يجب إنجازه. وهذا بالتأكيد نمط من التفكير قبل حداثي، إذا أخذنا الحداثة بوصفها أولاً نمط إنتاج يتعدّى ذلك النمط الريعي السابق عليها. وبموجب الأيديولوجيا ذاتها، يكفي الوطن أن يكون مشروعاً دعوياً، بما أنه لا يحتاج إلى إثبات وبرهان وجهد.

لكن، كما نعلم، لا يقتصر الفردوس الفيروزي على النظرة إلى الوطن، ففيه الكثير مما يتفرّع عن أرومة الوعي التبسيطي ذاته. وبهذا المعنى، قد يمكن الفصل بين محبي فيروز ومعتنقيها كأيديولوجيا لا تزال راهنة، من دون أن تأخذهم رأفة وهم يحمّلون صوتها الرهيف ما لم يعد يحتمله. وبالطبع كان لا بد لهذه الأيديولوجيا من أن تستجلب الأيديولوجيا المضادة، والتي بدورها ترى في صوت فيروز ناقل رسالة أيديولوجية أو سياسية، وهو ما ظهر “مثلاً” في السنوات الأخيرة مع سوريين ناقمين بالمعنى المباشر فحسب على البعث، وعلى ما يرونه “فيروز البعثية” تالياً.

ما سبق كله ينصرف إلى الصورة الطاغية لفيروز؛ صورتها المقترنة بالأخوين رحباني. أما فيروز-زياد فهي أكثر تركيباً وتعقيداً، وأقل نيلاً للإجماع، وأكثر مدنية بالمقارنة مع نسختها السابقة. إلا أن القديم لم يتوارَ وراء الجديد، بل برهن على رسوخه. وربما يكون أفضل ما تُكرَّم به “السيدة” في الذكرى التسعين لميلادها هو تخليصها من ذلك العبء الأيديولوجي القديم، والاستماع إليها خارج التسييس، واستعادتها من مبالغات الشعراء!

الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون زار فيروز خلال وجوده في بيروت عام 2020
المصدر المدن

اترك رد

عاجل