قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في خطاب ألقاه بمناسبة إحياء الذكرى 86 لوفاة مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك: «سننهي خطر المنظمة الانفصالية الإرهابية، مستخدمين في ذلك كل إمكاناتنا، سوف نكمل حلقة جديدة من التدابير الأمنية بحيث نفصل تماماً بين المنظمات الإرهابية وحدودنا» في إشارة إلى اجتياح عسكري جديد محتمل للأراضي السورية يستكمل منطقة عازلة على طول الحدود التركية، لإبعاد هذا «الخطر الإرهابي» عن تلك الحدود.
التهديد التركي الموجه إلى مناطق الإدارة الذاتية التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ليس الأول من نوعه، فلا تمضي سنة، منذ قيام تلك الإدارة، من غير أن يطلق المسؤولون الأتراك تهديدات مماثلة، وقد تحوّل بعضها إلى وقائع كما في حالتي عفرين وتل أبيض ـ رأس العين. لكن الجديد هو أنه قد صدر عن رأس هرم السلطة بعد عدة أسابيع شاع فيها تفاؤل حذر في الرأي العام بشأن احتمال إطلاق عملية سياسية جديدة لحل سلمي للمسألة الكردية في تركيا، بعدما أطلق رئيس حزب الحركة القومية دولت بهجلي مبادرة غامضة، لكنها تاريخية بالقياس إلى الإيديولوجيا المتشددة التي يتبناها الرجل وحزبه، وتاريخهما المناهض للحركة السياسية الكردية، يمكن تلخيصها في مقايضة إطلاق سراح زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان مقابل إلقاء الحزب للسلاح بصورة نهائية.
ولم يتراجع بهجلي عن مبادرته على رغم هجوم أنقرة الانتحاري على مجمع الصناعات العسكرية الجوية، وعلى رغم حملة السلطة القضائية على رؤساء بلديات في إسطنبول وماردين وباتمان وهلفتي بعزلهم وتعيين أوصياء بدلاً منهم، وأخيراً على رغم أن أردوغان لم يتبن مبادرة بهجلي بصراحة ولم يرفضها أيضاً. هذا الغموض أنعش تكهنات حول تباين وجهات النظر بين الشريكين في مقاربة المسألة الكردية.
كذلك جاءت تهديدات أردوغان المشار إليها عشية اجتماع جديد لمسار آستانا الثلاثي، بمشاركة ممثلي روسيا وتركيا وإيران، بعد انقطاع طويل لتلك الاجتماعات، وتم الإعلان عن موعده على عجل كأنه اجتماع طارئ. إذا تجاوزنا الكليشيهات المألوفة التي تضمنها البيان الختامي للاجتماع سنرى أن ممثل موسكو في الاجتماع قد أعلن رفضاً صريحاً لأي عملية عسكرية تركية محتملة في شمال سوريا، وكأن هذا الرفض الروسي، ويحتمل أنه مدعوم برفض إيراني أيضاً، كان الهدف الحقيقي من هذا الاجتماع الطارئ.
على رغم أن أردوغان لم يتبن مبادرة بهجلي بصراحة ولم يرفضها أيضاً. هذا الغموض أنعش تكهنات حول تباين وجهات النظر بين الشريكين في مقاربة المسألة الكردية
وسبقت هذه الإشارة السلبية الروسية تجاه تركيا إشارة أخرى جاءت على لسان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي قال إن تركيا وسوريا غير مستعدتين لتطبيع العلاقات بينهما في الوقت الراهن، الأمر الذي كرره من بعده نظيره التركي هكان فيدان الذي تذكّر وجوب جلوس نظام الأسد إلى طاولة المفاوضات مع معارضيه. وقبل ذلك يمكن اعتبار رفض مجموعة بريكس طلب الانضمام الذي تقدمت به تركيا أولى تلك الإشارات التي تكشف عن فتور بين موسكو وأنقرة ربما لا تشكل سوريا موضوعه.
بقي احتمال واحد لتفسير توقيت التهديد التركي الجديد باستكمال المنطقة العازلة على الجانب السوري من الحدود، ألا وهو فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وبنتيجة أكثر صراحة من فوزه في انتخابات العام 2016. وقد كان أردوغان من أوائل قادة الدول الذين سارعوا لمباركة فوز ترامب مستخدماً كلمة «صديقي» في مخاطبته. فقد واظبت أنقرة، طوال فترة حكم إدارة جو بايدن، على المطالبة بانسحاب القوات الأمريكية من شرق الفرات باعتبار أنها المظلة الحامية لقوات سوريا الديمقراطية التي تريد أنقرة القضاء عليها أو إبعادها عن الحدود التركية بشريط عازل داخل الأراضي السورية، كما واظبت على انتقاد تسليح واشنطن لتلك القوات، باعتبارها امتداداً لحزب العمال الكردستاني من وجهة نظرها. ومعروف أن ترامب أعلن عن سحب القوات الأمريكية من سوريا مرتين خلال فترة ولايته الأولى، ثم تراجع عن ذلك تحت ضغط وزارة الدفاع. يأمل الرئيس التركي في أن يعود ترامب إلى قراره بسحب تلك القوات ويقوم بالتنفيذ هذه المرة. وربما يأمل أيضاً بضوء أخضر من ترامب لاستكمال الشريط العازل، وفي باله قبوله باجتياح منطقة عفرين في العام 2018، و«نبع السلام» في 2019، وإن كان قد وضع حداً للتوسع التركي في المنطقة الأخيرة.
ولكن إذا عدنا إلى تلك الأيام الساخنة لا بد أن نتذكر أيضاً سخاء ترامب في امتداح قائد قسد مظلوم عبدي الذي عبّر عن رغبته في لقائه، ونقل رسالة منه إلى أردوغان طي رسالته إلى الأخير التي حذر فيها أردوغان من عواقب مواصلة قواته القتال في منطقة «نبع السلام». بالطبع تغيرت الشروط الإقليمية كثيراً عما كانت عليه في تلك الحقبة، ونحن الآن في قلب حرب إسرائيلية تهدد بتغيير الخرائط، وما زال احتمال اندلاع حرب مباشرة بين إسرائيل وإيران قائماً.
من هذا المنظور يمكن قراءة تهديدات أردوغان بصورة لا تتعارض مع مبادرة بهجلي الهادفة إلى «وحدة الصف في الداخل في مواجهة مخاطر الحرب الإقليمية الدائرة» كما يبدو في الظاهر. فمن المستبعد أن تتوقع أنقرة تجاوباً من ترامب لطموحاتها في استكمال الشريط العازل، بل الأقرب إلى المنطق هو أنها تطرح السقف العالي لتحصل على نتيجة مقبولة، مثلاً أن تطلق واشنطن مفاوضات بين أنقرة وقسد، تنتج تفاهمات تنهي الصراع بينهما وتطمئن الهواجس التركية، وهو ما يتطلب تفاهماً مماثلاً في الداخل التركي بين الحكم والكرد. هذه مجرد افتراضات يفرضها تعقيد المشهد وتداخل قوى إقليمية ودولية كثيرة في الصراع الدائر.