يوم الخميس الفائت، أقدم عاطف عزقول على قتل ابنته جلنار، ثم سلّم نفسه لفصيل عسكري محلّي تولّى تسليمه لفرع الأمن الجنائي في السويداء. عزقول كان قد تعهّد بعدم قتل الشاب مازن الشاعر، وبعدم قتل ابنته، إلا أن الاتفاق نُقض قبل ثلاثة أيام من قتله ابنته، عندما اقتُيد الشاب إلى مضافة في بلدة “قنوات”، وأدلى باعترافات “مع علامات التعذيب والترهيب الظاهرة عليه” مفادها المختصر أنه اختطف الفتاة المراهقة واغتصبها، وطالب ذويها بفدية مالية لإعادتها إليهم.
إقدام الأب على قتل ابنته أتى بمثابة تبرئة للشاب من تهمتي الاختطاف والاغتصاب، لأن الأب لم يعامل ابنته كضحية، وإنما كـ”مذنبة” لأنها ذهبت طوعاً إلى مَن تحب. الجريمة الثانية حدثت بعدما تسلّم الأب ابنته من جهات لعبت دور “الوساطة” في القصة بأكملها منذ اختفت الفتاة وعُرِفت وجهتها، ويُفهم أن الوسطاء خليط من المشايخ وفصيل محلّي، وقد أُشيع لاحقاً أن الأب تعهّد لهم قبل إحضار الشاب إلى مسرح الجريمة في “قنوات” بعدم قتله، وبعدم قتل ابنته أيضاً. هؤلاء الوسطاء لم يمنعوا اقتياد الشاب أمام عدد كبير من الحضور ثم قتله، ولم يثنهم قتله عن تسليم الابنة لأبيها لا إلى جهة يُفترض بها حمايتها، وليكن إلى الشرطة التي تسلّمت الأب القاتل، وسبق لها أن تسلّمت بطريقة مشابهة جناة آخرين.
يصحّ القول أن ما حدث هو جريمتَيْ قتل معلنتين على الملأ، وأن الضالعين في ما سُمّي “الوساطة”، متواطئون على نحو أو آخر، وأن الحضور الصامت متواطئ أيضاً. وقد لا يبدو جديداً على الإطلاق هذا التوصيف، إذ لطالما كانت “جرائم الشرف” جماعية ومجتمعيةً بامتياز. ومن المعلوم أن القضاء الحكومي السوري تعاطى مع مرتكبيها بمحاباة شديدة، فأفلت القتلة نهائياً من الجزاء، أو حصلوا على أحكام مخففة جداً حتى في حالات لا يمنح فيها القانون العذر المخفِّف للعقوبة.
المختلف هذه الأيام عمّا مضى، أن المسؤولية سابقاً كانت تُرمى بنسبة كبيرة على السلطة، بوصفها القادرة على سنّ قوانين أكثر تشدداً من المعمول بها، والقادرة على الإيعاز إلى الشرطة والقضاء للتشدد في تطبيق القوانين والتعليمات مع القتلة. كان يُنظر ضمناً إلى السلطة على أنها أكثر تقدّماً من جهات اجتماعية “متخلّفة” ومحافظة بطبعها، وفي أسوأ الأحول كان يُنظر إليها على أنها متحالفة مع تلك القوى، لكنها تبقى الوجهة الأجدر بالمخاطبة، والتي يُعوَّل عليها من أجل تغيير أسرع.
لقد تغيّرت الصورة السابقة كثيراً منذ العام 2011، فراح يُنظر إلى السلطة كعاجزة “في أحسن الأحوال” عن تأدية مهامها، بل هناك اتفاق عام على كونها متقاعسة عن ذلك، ما يتضمن اليأس من مطالبتها بأي شيء حتى على صعيد الخدمات الأساسية. وفي السويداء، الثائرة منذ أكثر من سنة، لا يُنظر في داخلها أو خارجها إلى السلطة كمسؤولة مباشرة عن العديد من الأحداث التي تقع، بما فيها جرائم القتل والسطو المسلَّح…، لأن المحافظة تخضع إلى حد كبير لما يمكن تسميته بالأمن الذاتي، حيث تتولى فصائل محلية متابعة جرائم وتجاوزات يُفترض أنها من اختصاص الشرطة والقضاء.
يجوز القول أن غياب السلطة المركزية يعيد جريمتَي قتل جلنار ومازن إلى أصلها كجريمة مجتمعية، من دون العذر المخفِّف الذي كان يقدّمه وجود السلطة. وتوصيفها بالجريمة المجتمعية يُفترض ألا يبدد المسؤولية عنها، فتحميل المسؤولية للمجتمع يجب ألا يعني عدم مسؤولية أحد على وجه التعيين، وكأنّ المجتمع هو أيضاً لا أحد. ثمة قوى اجتماعية فاعلة الآن تتحمّل المسؤولية التامة عمّا حدث، ولو بدرجات مختلفة حسب أهميتها وتأثيرها. وهي، بحسب انخراطها في جريمتي القتل الأخيرتين، تتضمن المشيخة والفصائل المحلية “وبعضها غير بعيد من المشيخة”، لتكتمل الأركان بمؤسسة العائلة، سواء من حيث الفعالية المستدامة للأخيرة أو لكونها الذراع التنفيذي لـ”جريمة الشرف”.
لقد صادف وقوع الجريمتين في بلدة “قنوات”، أي على مقربة من دارة شيخ العقل حكمت الهجري الذي اكتسب رمزية أوسع لوقوفه مع حراك السويداء ضد السلطة. ومن المستغرب وقوع ذلك كله بعيداً تماماً من الشيخ الهجري، بمكانته المعروفة في البلدة وخارجها، والأهم هو عدم صدور أي ردّ فعل علني عن الشيخ حتى كتابة هذه السطور، أي بعد مضي وقت كافٍ كي يتبيّن ما حدث، وكي يقرر اتخاذ موقف منه. إن قرب الشيخ من مسرح الجريمة يرتّب عليه مسؤولية إضافية، لكنه مُطالَبٌ أولاً بحكم مكانته بأن يعلن موقفاً صريحاً حازماً، يجرِّم فيه بلا لبس هذا النوع من القتل، فلا تكون مشيخة العقل في موقع الصامت المتواطئ.
رفعُ الغطاء الديني عن القتلة هو خطوة أولى، ضرورية ومؤثّرة، كي ينسحب عنهم “ولو تدريجياً” الغطاءُ الاجتماعي. هذا كان مطلوباً من المشايخ منذ أمد بعيد، إلا أنه اليوم مطلوب منهم أكثر من ذي قبل بحكم تزايد سلطتهم المعنوية مع انحسار السلطة المركزية، أي أنهم إلى حدّ ما اكتسبوا من سلطة القانون التي يُفترض أن يمثّلها المركز. هذا، كما هو معلوم، جعل لهم سلطة معنوية على الفصائل المحلية التي لم تنفلت بعد على غرار ما حدث في مناطق سورية أخرى، لكن سلوكها لن يكون مضموناً بلا رقابة، والمشيخة هي المؤهّلة رمزياً ومعنوياً لضبط الفصائل بحيث لا يتكرر ما فعلتْه بوساطتها المشينة في جريمتَي قتل جلنار ومازن.
على مستوى أعمّ، من الضروري أن تقدِّم سلطة الأمر الواقع نموذجاً أفضل، كي لا يُنظر إليها على أنها غير قادرة على ملء الفراغ الذي أحدثه طرد بعض مؤسسات سلطة الأسد، أو على أنها تعيد إنتاج مساوئ السلطة البائدة. وأن تقدِّم القوى “التي هي بمثابة سلطات رمزية مؤقتة” النموذجَ الجيد فهذا سيكون إنجازاً عاماً لثورة السويداء. أما اتخاذها موقفاً متقدّماً في حالة “جرائم الشرف” فسيخفف الضغط عن المجتمع نفسه، بما أن الحديث عن مجتمع ضيق تحكمه اعتبارات القرابة والمعرفة الشخصية والإحراجات المتولِّدة عنها.
ولا يُستبعد أن يكون العامل الأخير قد تسبب بضعف التضامن المعلن مع القتيلين في تظاهرة ساحة الكرامة الرئيسية، الجمعة، بخلاف وسائل التواصل التي شهدت حجماً أوسع من التضامن، ومن الجرأة في الإفصاح عن مواقف جذرية إزاء هذا النوع من الجرائم. ليبقى من المأمول في الأيام المقبلة أن يطوّر نشطاء الساحة وناشطاتها موقفاً راسخاً وقوياً من الجريمة، وبأساليب تُبقي تلك الفظاعة تحت الانتباه كنوع من الضغط على المرجعيات والقوى الاجتماعية.
إذا فعلت ساحة الكرامة هذا، تكون قد تحاشت عثرات مدن وبلدات سورية أخرى ثارت على الأسد، وجامل نشطاؤها سلطات الأمر الواقع التي تغوّلت لاحقاً على مطالبهم كافة. وإذا أمكن التماس القليل من العذر، بسبب قلة الخبرة ووقوع تلك التجارب تحت أهوال العنف الذي باشره الأسد، فإن السويداء لديها اليوم العبرة السابقة، ولديها فسحة من الوقت لتثوير النظرة إلى العديد من القضايا، بل ربما يكون هذا هو الممكن وهي في الطريق إلى ما قصيّ وبعيد المنال.
Sorry Comments are closed