لا تزال إيران و”حزبها” اللبناني يرصدان ويحاولان تقصّي معلومات عما أحدثه هجوم “الحزب” قبل أسبوع على مواقع أمنية واستخبارية مهمة في تل أبيب ومحيطها، وتردّد أنهما استعانا بـ”الصديق” الروسي للحصول على صور من الأقمار الاصطناعية. وفيما يبقى الهجوم الإيراني مرتقباً وسط استعدادات أميركية استثنائية لإحباطه قبل أن يصل إلى أهدافه، فإن كل يوم تأخير يمرّ عليه يُفقده الأهمية “الاستراتيجية” التي توليه إياها طهران، ولذلك روّجت أن انتظاره جزء من فاعليته قبل أن يحصل.
في المقابل، يسود انطباع لدى الخبراء العسكريين بأن هجوم “حزب إيران/ حزب الله” لم يوجع إسرائيل بالمقدار الذي أراده وإلا لما كانت حثّت “الحزب”، بعد ساعات قليلة على الهجوم، على اعتبار أن ملف الثأر لقائده العسكري فؤاد شكر قد أُغلق، وقد لقيت استجابة من الأمين العام لـ”الحزب” وإن تركها “معلّقة” ريثما ينتهي تقويم نتائج ضربته. وفي الأثناء حرصت واشنطن على تسليط الضوء على الهجوم الجوي الإسرائيلي الاستباقي ودورها في إطلاقه، فقالت إنه ساهم في “إحباط” هجوم “الحزب”، لكن الأخير قلّل من أهمية “الاستباقي” بدليل أنه نفّذ بعد نصف ساعة العملية كما كان قد خطّط لها.
المؤكّد أن هذا الحدث أدّى الى نتيجتين مباشرتين. أولاهما، أن إسرائيل زادت اقتناعاً بـ”جدوى” سياسة الاغتيالات التي تمارسها منذ عقود ضد القادة الفلسطينيين ووسّعتها لاحقاً لتشمل قادة عسكريين إيرانيين أو موالين لهم. وقد عزّزت هذه الاغتيالات شعبية بنيامين نتنياهو، وفقاً للاستطلاعات، لكنها لا تزال بعيدة عن تخليص إسرائيل من عبء المسألة الفلسطينية. هذا يقود إلى النتيجة الثانية، وهي أن نجاح الاتصالات والتحذيرات الأميركية، والحشد العسكري في المتوسط، مع تفعيل التحالف الغربي ضد إيران وأذرعها، ساهم مسبقاً في محدودية أي ردّ انتقامي من إيران و”حزبها” اللبناني، كما في منع إشعال “حرب كبرى” لطالما لوّحت بها طهران وأتباعها.
استناداً إلى ذلك، فتحت إسرائيل “رسمياً” الحرب على الضفة الغربية، بعدما أنجزت معظم ما استهدفته في حربها على غزّة، و”أرجأت” موقتاً حربها ضد “حزب إيران” في لبنان. وإذ يقال دائماً إن إسرائيل تعتدي ولا تحتاج إلى ذرائع بل تدّعي أن لديها معطيات استخبارية تكفي لشنّ اعتداءات، فإن فشلها في توقّع عملية “طوفان الأقصى” وما رافقها في منطقة غلاف غزة شكّلا لها الذريعة لعدم الاكتفاء بمجرد الردّ بل للذهاب إلى خيار الإبادة الجماعية بقتل عشرات ألوف الفلسطينيين وتشويههم وتدمير مقومات الحياة… أما في الضفة، حيث اخترقت “حماس” و”الجهاد” والفصائل الأخرى للمقاومة معظم المدن والمخيمات، على نحوٍ معروف وشبه علني، فإن الذريعة موجودة لتبرير وحشيتها وتكرار كل الجرائم التي ارتكبتها في غزة، فحيثما تحلّ قواتها لا تبقى مستشفيات ولا ماء ولا كهرباء ويبدأ مسلسل التهجير القسري.
معركة الضفة كانت في إعلام “المحور الإيراني” موعودة منذ ربيع 2023، لكن تبيّن أنها لم تكن بمستوى الجاهزية التي ترتّبت لـ”حماس” عشية هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر). وفي القطاع، كما في الضفة، اعتبرت إسرائيل أن استحواذ إيران على الملف الفلسطيني وفّر لها “فرصة” تاريخية كي تنفّذ خطط “الحسم”، المعدّة والمعدّلة على مدى عقود، للانتهاء من الهاجس الفلسطيني، أي من الشعب الفلسطيني. لم يغب هذا “الحسم” أبداً عن التفكير الإسرائيلي، وزاد اليمين الليكودي ثم الديني من ترسيخه في أذهان المستويين السياسي والعسكري، خصوصاً بعدما أصبحت هناك منذ مطلع تسعينات القرن الماضي “عملية سلام” ومفاوضات مع الفلسطينيين وخيار مطروح لإقامة “دولة فلسطينية” باتت تحظى الآن باعتراف أكثر من 140 دولة، وذلك في إطار خيار “حل الدولتين” الموثّق أممياً والمعترف به (باستثناء الولايات المتحدة وإسرائيل نفسها) حتى من جانب دول غربية لم تعترف بعد بـ”الدولة”.
منح الدعم الغربي المطلق لإسرائيل الفرصة التي انتظرتها، بل “الفرصة الأخيرة”، لتباشر تنفيذ “خطة الحسم” بنسختها المحدثة التي تولّى وزير المال والاستيطان بتسلئيل سموتريتش عرضها مراراً وتكراراً منذ 2017 وكانت تستهدف خصوصاً الضفة الغربية باعتبارها الامتداد والتماس الجغرافيين والديموغرافيين لـ”الكيان” الإسرائيلي، وترتكز على فكرة ترحيل الفلسطينيين إلى “الوطن البديل” (الأردن). لكن هجوم “حماس” (7/10/2023) الذي فُهم أنه خطوة إيرانية لتعطيل مسار “التطبيع العربي” مع إسرائيل، بمقدار ما هو مقاومة ضد الاحتلال، قدّر لـ”خطة الحسم” أن تبدأ من غزة لا من الضفة.
كان “قانون الدولة اليهودية” الذي أقرّ في تموز (يوليو) 2018 في سياق التمهيد لذلك “الحسم” الذي عنى عملياً “حسم الصراع” وإغلاق ملف القضية الفلسطينية، لكنه عنى خصوصاً مسلسلاً طويلاً من سفك الدماء والدمار والتحكّم بمصير الفلسطينيين، كما يحدث حالياً، لسلبهم حقّهم في تقرير مصيرهم الذي تكرّس بقانون دولي في الأمم المتحدة، ولإلغاء أي مقومات لـ”دولة فلسطينية”.
انطوى الدعم الأميركي والغربي على قبول واضح لشروط إسرائيل، وأبرزها طمس متعمّد للقانون الدولي، واستباق لتدخّل أي من الهيئات الدولية (مجلس الأمن، محكمة العدل الدولية، المحكمة الجنائية الدولية، مجلس حقوق الإنسان)، وصولاً إلى السعي لتفكيك المنظومة الأممية التي تعتبر إسرائيل أنها أبقت قضية الشعب الفلسطيني على قيد الحياة. لذلك هوجمت وكالة “الأونروا” ومنع برنامج الأغذية العالمي من العمل، ومزّق المندوب الإسرائيلي ميثاق الأمم المتحدة أمام الكاميرات. وبعد القصف المتعمّد لموكب “المطبخ المركزي العالمي” (الأميركي) وشاحنات المساعدات، أكّدت الأمم المتحدة خلال الأسبوع الماضي بشكل خجول أنها لم تعد قادرة على العمل في غزة. يستتبع ذلك الإفشال المنهجي لمفاوضات الهدنة وتبادل الأسرى، لأن شروط نتنياهو مرتبطة بـ”خطة الحسم” وترمي إلى تثبيت الاحتلال حتى لو كان الثمن التخلّي عن الرهائن الذين تحتجزهم “حماس”.
ما يمكن توقّعه الآن أن إسرائيل ستواصل حشر الغزيين في مناطق نزوح غير مستقرة بلا خدمات، وسيُترك الوضع في غزة يتعفّن ولا خيارات فيه للسكان إلا الخضوع أو الرحيل على حسابهم وبالقليل الذي تبقّى لهم من مدخرات، وأساساً هناك نزيف سكاني صامت ومستمر مع شيء من “التسهيلات” غير المعلنة. فكل شيء في سياسات الحكومات الغربية يشير إلى أنها تساهم في تطبيق خطط إسرائيل لإعادة احتلال القطاع واستيطانه مرة أخيرة من دون رجعة، أما الحرب على الضفة فلا تزال في بداياتها.
Sorry Comments are closed