“عشرين سنة من حياتي راحت حرق، شعور الأمان اللي الناس فقدته بعد الحرب، أنا فقدته من وقت تزوجت قبل الحرب.”
بهذه الكلمات عبّرت «سارة» (اسم مستعار) «36عاماً» وهي مهجرة من ريف دمشق إلى شمال سوريا عن الحالة المأساوية التي تعيشها رفقة زوجها المدمن على تعاطي المواد المخدرة، إذ تتحمل النساء العبء الأكبر في مواجهة العنف المرتبط بتعاطي المخدرات، خاصة إذا كان الشريك أو أحد أفراد الأسرة من المدمنين.
وفي ظل الفوضى الأمنية التي شهدتها سوريا على مدار 14 عاماً من الحرب وما خلفته من آثار سلبية على الفرد والمجتمع وجدت النساء أنفسهن وحيدات في عين العاصفة، بلا قانون يضمن حمايتهن ولا مراكز رعاية تخلصهن من العنف الممارس ضدهن جراء إدمان المواد المخدرة من قبل أحد أفراد الأسرة من الذكور.
إدمان بالإجبار
“لما تهجّرنا لشمال سوريا سنة 2018 كنت متأملة بوجود قانون يحميني، بس طلع العكس. بالكثير عياري رصاصة وما حدا بيسأل عني”، تقول سارة التي تزوجت في سن «16عاماً»، دون أن تعلم أن زوجها يتعاطى المخدرات حتى وجدت قطعة حشيش في خزانة ملابسه بعد أيام من زواجها.
ولاحظت بعد ذلك تغيراً في سلوكه وتصرفاته بشكل غريب بالتزامن مع سماعها عبارات غريبة ومموهة تدور بينه وبين بعض أفراد عائلته الذين يتعاطون المادة نفسها بشكل جماعي، من قبيل عبارة “ملغومة أو غير ملغومة؟” أثناء تقديم أحدهم سيجارة للآخر، للاستفهام حول احتوائها أو عدم احتوائها مادة الحشيش التي أثر دخانها على سارة في بعض المرات لتسمعهم يتهامسون بعبارة “لقطت معها” على حد وصفها.
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد في كثير من الأحيان، وإنما يتعداه إلى مراحل أبعد وأخطر على النساء والأطفال وقد يفكك أسراً بأكملها، ويخلفُ أمراضاً اجتماعية يصعب التعامل معها على المدى القريب، بحسب المرشدة الاجتماعية سلام الطويل العاملة مع منظمات العمل الإنساني في محافظة “إدلب” شمال سوريا.
يعدّ الترامادول مسكّنًا فعالًا للألم، ويصنّف طبيًّا كأحد الأفيونات المصنّعة، وهو دواء من المفترض أن يتم صرفه بوصفة طبية. ويباع باسم الترامادول، ولكن له أسماء تجارية كثيرة، إذ يبلغ عدد الأصناف التي تحتوي على مادته الفعالة (ترامادول هيدروكلوريد) قرابة 20 صنفًا تتسبب باضطرابات في إفراز مادة الدوبامين في الدماغ، المسؤولة عن أحاسيس كثيرة مثل النشوة، والسعادة، فتصبح الأولوية القصوى لدى المدمن، هي الحصول على الجرعة التي تمكنه من التصرف كشخص طبيعي يستطيع أن يؤدي أبسط المهامّ اليومية، ويمكن أن تتسبب الجرعة الزائدة بالاختلاجات وتباطؤ القلب واحتمالية الموت بالإضافة إلى الشعور بالتوتر والقلق والتقلبات المزاجية الحادة وغير الاعتيادية بحسب المصدر الطبي PubMed.
وقعت فريسة زوجها وأصدقائه
إجبار سارة على تناول الحبوب المخدرة ترافق بضرب مبرح تعرضت له في كل مرة رفضت تناول الحبة، بالإضافة إلى تهديدات مستمرة بإيذاء أطفالها أو أحد أفراد عائلتها إلى أن باتت تطلبها بنفسها، ليترتب على ذلك غرق أكبر وضياع وشعور دائم بالانفصام القاتل بين الليل والنهار وتخبط المشاعر، حسب وصفها.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تعداه لتصبح فريسة لزوجها وأصدقائه معًا إذ أتاح لهم الفرصة للتحرش بها أمام عينيه، أو إرسالهم إلى منزلها في وقت غيابه، تروي كيف بدأ هذا الأمر قائلة “تعرضت للضرب الشديد، ثم أجبرني على أخذ صور خاصة لي وإرسالها لأصدقائه، في المقابل، كان يحصل على صور خاصة بزوجاتهم بأوضاع مخلة وغير طبيعية.”
تحملت سارة هذه الانتهاكات الصارخة بحقها لرغبتها الشديدة في الحفاظ على طفليها (سلام وأمير) خوفًا من أذى والدهما أو أن تُحرم من رؤيتهما. بالإضافة إلى خوفها عليهما من وصمة العار المجتمعي في حال عرف الناس أنهما ابنا شخص مدمن على المخدرات، لذلك حاولت طويلاً إخفاء ما تتعرض له، إلا أن جنون والدهما أحياناً يضعهما ضمن دائرة العنف نفسها التي تحكم والدتهما.
تؤكد أنها كانت تحت التهديد طوال الوقت، تهديد حياتها وأولادها وعائلتها في حال طلبت الطلاق، وبالتحديد بعد تهجيرها إلى الشمال السوري حيث بات حصول زوجها على المواد المخدرة أكثر سهولة وبنوعيات مختلفة وتأثيرات شديدة مثل حبوب “الكابتاغون” ومخدر “الكريستال ميثامفيتامين” المعروف بـ”الإتش بوز” شديد الخطورة الذي يؤدي تعاطيه إلى ارتكاب الجرائم والأفعال من دون التفكير بنتائجها وعواقبها.
نساء دخلن جحيم المخدرات شمال سوريا
لا توجد إحصاءات دقيقة لأعداد النساء المعنفات بسبب المخدرات في شمال سوريا، إلا أن المركز السوري لمحاربة المخدرات -مؤسسة مدنية مستقلة متخصصة في محاربة المخدرات وعلاج الإدمان والتعاطي يعمل في مناطق سورية عدّة- أكد على أنه رصد 20 حالة لنساء تعرضن للعنف الزوجي والأسري نتيجة تعاطي المخدرات، خلال فترة عمله منذ سنتين، أغلبهن في منطقتي رأس العين وتل أبيض مؤكداً على وجود حالات أكبر من هذا العدد بكثير إلا أنها لا تظهر للعلن بسبب خوف الضحايا من الشريك والوصمة المجتمعية.
كما كشف المركز عن تزايد نسبة تعاطي المخدرات بين الشباب في مناطق شمال غرب وشمال شرق سوريا في عام 2024 مقارنة بعام 2021، ويعتمد المركز بحسب مسؤولة وحدة دعم وحماية المرأة في المركز أسيل المحلول على إجراء الاستبيانات الدورية لقياس نسبة انتشار المخدرات وأثرها، حيث يصل متوسط نسبة المتعاطين في المناطق المستهدفة إلى 40% تتراوح أعمارهم بين 16 و35 عاماً.
كما تلقى المركز خلال فترة عمله بين الأول من شباط / فبراير 2022 حتى نهاية شهر تموز/ يوليو 2024، اتصالات من 200 مدمن في شمال غرب وشمال شرق سوريا، عبر الخط الساخن للمركز أبدوا رغبتهم بشكل ذاتي في تلقي العلاج أو طلب المساعدة والاستفسار عن كيفية التعامل مع الإدمان وآثاره.
كما تم تقديم الاستشارات الطبية من قبل المختصين في المركز لمساعدة المستفيدين والمستفيدات على التعامل مع حالاتهم أو الحالات التي تخصهم نحو خطوات التعافي المناسبة، رغم التحديات التي يوجهها المركز في ظل عمله التطوعي بشكل كامل ونقص الموارد.
من جهتها، أكدت الأخصائية النفسية «هاجر المحمد» العاملة في المنظمات الإنسانية شمال سوريا، أن حالات العنف في المجتمعات تزداد خلال الحروب والظروف الطارئة، إذ تُجبر النساء على تقبل العنف بغض النظر عن درجته، كما تحدثت عن أشكال عديدة للعنف ضد النساء بسبب التعاطي، وفي مقدمتها العنف الجسدي والجنسي، العنف النفسي والعاطفي، الاستغلال، التهديد، الابتزاز، بالإضافة إلى إجبارهن على التعاطي أو تأمين المواد المخدرة، ما يؤكد على وجود علاقة طردية بين نسب تعاطي المخدرات ونسب العنف والجرائم، مشيرة إلى أن ذلك لا يقتصر على مناطق شمال سوريا وإنما “يمتد لكل سوريا”.
تمثل نسب تزايد المتعاطين كابوساً للمجتمع لا سيما النساء اللواتي يجبرن على التعاطي دون قدرتهن على تخطي الأمر، وما يرتبط بذلك من تقبل للعنف وممارسة الدعارة والجرائم، لأن المرأة بذلك “تصبح شريكة المتعاطي في أعماله” كما تقول الأخصائية الاجتماعية سلام الطويل التي تؤكد على تنامي هذه الظاهرة من خلال خبرتها المجتمعية، وتلقيها الكثير من الحالات منها من تطلب المساعدة.
ووفقًا للمركز السوري لمحاربة المخدرات، فإن عدد النساء اللواتي يجبرن على تعاطي المخدرات في مناطق عمله قد ازداد بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة. هذه الظاهرة ليست مجرد مشكلة صحية، بل تترافق مع ارتفاع معدلات العنف الأسري والانتهاكات الجنسية.
حكاية مدمنة
وبالفعل لا تستطيع جميع السيدات اللواتي يعانين من هذا العنف النجاة من الأمر بسهولة، وخاصة عندما تتوفر الأسباب التي تجبرهن على البقاء مع الشريك كما حصل مع «دلال» (اسم مستعار-40 عاماً) التي فضّلت اختيار زوجها على عائلتها قبل عام 2011 حين تقدّم للزواج منها أثناء إقامتها في محافظة اللاذقية.
تقيم دلال حالياً في أحد المخيمات شمال إدلب رفقة زوجها بعد زواج دام (14 عاماً) بدون وجود أولاد بسبب إجبارها من قبل زوجها على أخذ حقن خاصة بمنع الحمل حتى تتسنى له معاملتها بالشكل الذي يناسبه دون أي مؤثرات كما تقول لنا.
وصولنا إلى دلال كان صعباً جداً، لكن لم يكن من الصعب اقناعها أن تتحدث عمّا تعانيه جراء المخدرات، إذ كانت تبحث عن أي أحد يسمعها لترتاح لا لأن تطلب المساعدة، لأنها مقتنعة أنه “يستحيل مساعدتها أو حل مشكلتها” كما تحدثت.
تقول “لم أكن أعرف إلى من ألجأ بعد أن هربت من كنف عائلتي، كان الجميع يخاف من زوجي ولم أشعر بأي دعم محيط يمكن أن يساعدني في مواجهة العنف الذي أتعرض له”، وهذا ما أجبرها على البقاء معه حتى هذه اللحظة رغم كل ما تعانيه من ضرب وإذلال واجبار على التعاطي.
تتعرض دلال لعنف مضاعف بسبب طبيعة إقامتها ضمن مخيم لا يراعي الخصوصية مع التصاق الكتل السكنية بعضها ببعض، وهذا ما دفع زوجها لمعاملتها بطريقة وحشية، إذ اعتاد ربطها وإغلاق فمها، وممارسة جميع أشكال العنف ضدها، من عنف جنسي وجسدي ونفسي ولفظي، انتهى به إلى إجبارها على التعاطي.
تردد هذا الجملة والدموع تتساقط من عينيها اللتين أحيطتا بهالات سود. تروي تفاصيل قصتها والانتهاكات التي مازالت مستمرة باستمرار زواجها وإجبارها على التعاطي.
اضطرابات نفسية وعزلة اجتماعية
تعاني النساء اللواتي يجبرن على تعاطي المخدرات من اضطرابات نفسية خطيرة مثل الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة حسب الأخصائية النفسية هاجر المحمد التي أكدت على ضرورة توفير الدعم النفسي والعلاج المناسب لتلك النساء ومساعدتهن على التعافي والعودة إلى حياتهن الطبيعية من خلال توفير بيئة آمنة وداعمة كخطوة أولى نحو تمكين تلك النساء وإعادة بناء حياتهن.
كما يجدر الذكر أن لدى المركز السوري لمحاربة المخدرات “برامج لدعم ذوي المتعاطين، خاصة النساء، عبر وحدة حماية وتمكين المرأة، التي تعمل على تقديم الدعم النفسي للنساء المتضررات من العنف المرتبط بتعاطي المخدرات عبر خط ساخن للتبليغ عن عمليات العنف الذي ارتفع معدله بشكل ملحوظ، بالإضافة للعمل على تجهيز وحدة “صحتي” التي ستقدم استشارات متخصصة في مجال الإدمان من خلال المختصين والمختصات في المجال والمتابعة مع المدمنين وذويهم للوصول إلى التعافي والاندماج المجتمعي، حسب «أسيل المحلول» مسؤولة وحدة دعم وحماية النساء في المركز السوري لمحاربة المخدرات.
إلى جانب الآثار النفسية، تعاني النساء من آثار اجتماعية سلبية مثل العزلة الاجتماعية وفقدان الدعم الأسري والمجتمعي. تقول الأخصائية الاجتماعية: “النساء اللواتي يجبرن على تعاطي المخدرات يجدن أنفسهن معزولات عن المجتمع، مما يزيد من شعورهن باليأس والإحباط مما يتوجب توفير برامج دعم وإعادة تأهيل لتمكين تلك النساء من استعادة حياتهن من قبيل تقديم المساعدة القانونية والنفسية للنساء المعنفات”.
وتعقّب الأخصائية الاجتماعية بأنه “يجب توفير مأوى آمن وبرامج إعادة تأهيل لمساعدة النساء على الخروج من دوامة العنف والإدمان. كما يجب توعية المجتمع حول خطورة تعاطي المخدرات والعنف المرتبط بها.”
لا يوجد في سوريا قانون خاص يتعامل مع العنف المنزلي، وخاصة ضدّ النساء، فقد تعامل القضاء في سوريا مع هذا النوع من الجرائم مثلها مثل باقي الجرائم المتعلّقة بالإيذاء والمشاجرة المنصوص عليها في المادة (540) وما بعدها، من قانون العقوبات السوري العام بحسب الحقوقية هدى سرجاوي العاملة في الشمال السوري.
وتضيف “بالنسبة لعقوبة إكراه الغير على تعاطي المخدرات تتضمن عقوبات مشددة وفقًا للمادة 39 من القانون رقم 2 لعام 1993 الذي ينص على الحكم بالسجن المؤبد، بالإضافة إلى ذلك قد تُفرض غرامات مالية كبيرة على مرتكبي هذا الجرم، لكن بالنسبة للوضع شمال سوريا لا يوجد حماية للنساء المتعرضات للعنف”، علماً بأن القانون المعمول به هو القانون السوري قبل 2011، كما تشدد على أهمية وجود جهة تضمن حماية النساء المتعرضات للعنف في ظل فقدان الكثير منهنّ لوجود الأهل في ظل الظروف الراهنة.
وغالباً، لا تقوم الزوجة بتقديم أي شكوى (الادعاء) ضد زوجها، لأسباب عديدة، منها الخوف من الوصمة الاجتماعية وعدم القدرة على تحمّل تبعات هذه الشكوى في ظل غياب الحماية لها.
تعكس قصتا سارة ودلال وغيرهما من السيدات واقع العديد من النساء اللواتي يعشن تحت وطأة العنف والإدمان في الشمال السوري الذي يقطنه نحو ستة ملايين نسمة، بينهم نحو 2.9 مليون نازح، يقاسي المدنيون من ظروف اقتصادية ومعيشية صعبة، لكن واقع النساء والأطفال، ونسبتهم 80% من النازحين، هو الأسوأ مقارنة بشرائح المجتمع الأخرى، نتيجة تعرضهن للعنف القائم على النوع الاجتماعي.
وأشار بيان مشترك للأمم المتحدة، صادر في كانون الأول/ ديسمبر 2022 إلى أن نحو 7.3 مليون شخص في سوريا، معظمهم من النساء والفتيات، بحاجة إلى خدمات العنف القائم على النوع الاجتماعي، وأن النساء والفتيات السوريات تواجهن قيوداً على الحركة “وإمكانية محدودة للوصول إلى فرص العمل وخدمات الحماية والرعاية الصحية، وغيرها من المساعدات الحيوية في ظل التزايد المستمر في انتشار المخدرات في سوريا.
Sorry Comments are closed