اشتباك الواقع والخيال في رواية “الحرب تشرب الشاي في المقهى”

فريق التحرير16 أغسطس 2024Last Update :
ليلى العامري
رواية «الحرب تشرب الشاي في المقهى» للكاتب والروائي السوري منصور المنصور

بداية.. قبل أن نلج بوابات الحياة المتخيلة، باشتباكها مع الواقع لنتعرف على العلاقات والبنية الداخلية في النص الروائي، سأتوقف عند العنوان الذي يشغل حيزاً مهماً من فضائها العام، كونه جاء تكثيفاً عميقاً لها، واشياً بالخطوط العريضة بمضامينها، فكان بمثابة الشرفة التي نطل منها على النص الروائي، فالتركيبة /الفانتازية/ للعنوان (الحرب تشرب الشاي في المقهى) لم يعفه من واقعيته، و خصوصاً مفردتي (الحرب، المقهى)، فالحرب هي العمود الفقري للعمل، فقد رسمت مصير ومسار الشخصيات مكانياً وزمانياً.

اقتصد الكاتب في تقديم مشاهد العنف المباشرة، دون المساس بدلالتها كحالة عنف مفرط مدمرة، تركت أثرها المباشر المادي والنفسي على البشر والحجر ، وما زاد من الدلالة الواقعية للحرب ذكر أسماء بعض المدن التي كانت ساحة اشتباك ( داريا، دوما، حمص..).
أما المقهى ببعده الواقعي أيضاً فقد شكل حاضنة لهذا البدد السوري، لهؤلاء الغرباء، وشاهداً على حياتهم وتقلباتها، و كأنه وطن بديل، فمن غير العبث بن جاءت تسميته (بمقهى السوريين)، فهو الثابت في صخب تحولاتهم. كما أن العنصر الفنتازي تجلى بتلك الملعونة التي تُدعى الحرب، حيث تجلس في المقهى تضع ساقاً على ساق وهي تشرب الشاي..
من هنا يأتي الاشتباك بين الواقع والمتخيل، فالحرب، المقهى، ما هي إلا المواد الخام للمخيلة الإبداعية، التي أعادت إنتاج وتشكيل الواقع، الوقائع والأشخاص وفق الرؤية الفنية للكاتب، وطريقته بإعادة خلقها لتغدو عالماً آخر مغايراً ومفارقاً لصورته الأولى.
بما تقدم نجد أن العنوان كان قرينة من القرائن الدالة على جماليات النص المنجز، بأسلوب بسيط لا تعقيد فيه، حيث اعتمد على الأسلوب المنطقي للأحداث، فهذه الحرب التي جاءت كحالة اضطرار خلقت المناخات المواتية لهجرةٍ قسرية هرباً من العنف… من الوطن الأم إلى المهاجر.
في هذه الرواية اتبع الكاتب طريقة غير تقليدية في السرد، لأنه أوكل مهمة السرد لشخصياته، فهي التي واكبت عملية الروي حتى النهاية، فالعمل برمته يتمحور حول أربعة شخصيات رئيسة، هم : عارف، ندى، أمير، منى .. تتحدث هذه الشخصيات عن نفسها بالتناوب، من خلال ستة عشر لوحة أدبية متلاحقة، بتداع حر بلا قسرٍ أو ضغطٍ على الشخصيات من قبل الكاتب، حيث تُظهر الشخصية قناعاتها الحقيقية تجاه نفسها والآخرين، وهذا جعلها تبدو راضية عن نفسها مما حرمها بعضاً من الصراع الداخلي الذي بدوره يغني الشخصية، إلا في حالات نادره، على سبيل المثال حين عاش عارف حالة صراع بعد إحساسه أن الجميع تخلى عنه، لكنه سرعان ما عاد له تماسكه ليستأنف حياته وبنفس القناعات.

  • مع ولادة عارف يولد زمن الرواية، أي في ثمانينات القرن الماضي، فهو الشّخصية الأبرز والمحورية في العمل، ذلك الرجل الذي امتلك فلسفة خاصة للحياة، تتمحور حول فكرة المال والسلطة فمن خلالهما يكون النجاح ومن ثم تكون له السيطرة، هذه القناعات والأفكار كانت نتيجة منطقية لتلك البيئة الاجتماعية التي نشأ بها، والتي عَمِلتْ على صياغة شخصيته بهذا الشكل الفكري والنفسي، فقد جاءت ولادته بعد اشتهاء طويل لزوجين حُرما من نعمة الإنجاب، فوالده ضحى بميراثه لإخوته مقابل المال ليتمكن من العلاج، وقد نجح هذا العلاج التي تم بأمريكا، فكان عارف، هذه العائلة الصناعية التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى، تولي المال قيمة كبيرة، فالعلاقات بينهم عداً و نقداً، فهو كان ابناً باراً لهذه البيئة.
    كما أنه ابن للصدفة كما كان هو يردد.. لم يكن طفلاً محبوباً لأنه يريد الاستحواذ على كل شيء، ولا يجيد اللعب مع أقرانه من الأطفال.. هذه الشخصية مرت بمفصلين مهمين تركا أثراً بالغاً في تكوينها هما: وفاة والده الذي أدخله و أمه في حالة صراعية مع أعمامه، لينتهي الأمر بتجريدهم من كل ما يمتلكون، والثاني هو زواج أمه من تاجر السيارات المستعملة، ذلك الرجل الفجّ، لتنشأ بينهما علاقة متوترة مليئة بالمشاعر السلبية، لم يتمكن زوج الأم من السيطرة عليه فكان يلجأ إلى حالة انتقامية واستفزازية، وذلك بأن يعاشر أمه على مرأى ومسمع منه، يعاشرها متى يشاء وكيفما يشاء، هذا الأمر من الأهمية بحيث أنه ترك بأعماق عارف رضاً نفسياً انعكس على خراب حياته العاطفية بالمرأة، التي اختصرها بالمتعة والجنس العاري وبدون مشاعر، وإن كان مضطراً لأن يسدل عليها بعضاً من ستائر الخديعة، كل تلك الملابسات جعلت منه شخصية نرجسية، باطنية، ملغمة، تجيد فن الإخفاء و الإظهار للمشاعر، شخصية ليست بسيطة، مركبة وقادرة على ضبط انفعالاتها.
    ظهرت هذه السمات الشخصية بعلاقته بمحيطه الاجتماعي، الذي يتحرك به وبشكل خاص حين حاول تخريب علاقة أمير صديقه الوحيد بندى، حين كانا يعملان سويةً بمشفى (الأسد الجامعي) ومرة أخرى (باستانبول)، أما علاقته بندى كانت الكاشف الحقيقي لبنيته النفسية ولقناعاته، العلاقة التي لا تتعدى حدود الجسد واحتياجاته حيث أكد قائلاً: كنت و لا أزال لا أتوانى عن مغازلة أية امرأة أراها، وأعتبرها مشروعاً لعلاقة جنسية، فإن نجحت حققت هدفي واستمتعت وأمتعتها، وإن لم أحقق أربي أنسى الأمر وكأن شيئا لم يكن.. هنا يتساءل القراء كيف لهذه الشخصية أن تمتع وتستمتع وهي بهذا الفهم العملي الخالي من المشاعر؟!
    و بعد اندلاع الحرب لم يتردد في الهجرة إلى تركيا، ولم يكن يعنيه سوى خلاصه الشخصي.
  • ندى المتحدرة من إحدى أسر ريف دمشق، والتي تعمل ممرضة في مشفى (الأسد الجامعي)، شخصية حملت في مسيرة حياتها خطاً درامياً متصاعداً في تطوره، رغم ما انتاب هذا الخط من تأرجح في بعض مفاصله، فهي لم تكن من القوة التي تمكنها من تحدي الأهل عندما أُرغمتْ على الزواج، لكنها انتصرت لنفسها فيما بعد، هذه الفتاة الجميلة ذات جاذبية خاصة مفرطة في الأنوثة، هذا ما جعلها موضع إعجاب الجميع من الزملاء، حتى رئيسها الجاف في تعامله، هي تتمكن من التعامل معه ببساطة، اختارت أمير حبيباً ومشروع زوج لها، متجاهلة محاولة عارف الدخول بين الشقوق وإفساد علاقتها بأمير، الذي لم يكن جاهزاً لهذه الخطوة، وبعد أن تعرّضت للضرب وأشكالا متعددة من العنف على يد الوالد والأخ، رضخت للقبول بالزواج من رجل ثري تقدم لخطبتها، يعمل بدولة خليجية.. و مع هذا الزواج انتقلت إلى حياة زوجية مملة ورتيبة خالية من الحب، رغم مبالغة الزوج بالاهتمام بجسدها الذي كان يريده تحت الطلب، فلم يبخل عليها لا بالمجوهرات ولا بالثياب أو العطور الفاخرة، أو الخروج المبرمج إلى المطاعم، حاولت التأقلم لكن عبثاً، وكأنها كانت تنتظر حدثاً كبيراً بحجم الحراك الثوري الذي حدث في البلاد، لتتنفس من خلاله، فأصبحت ناشطة على (الفيس بوك) ليكون هذا الأمر مقدمة لحدوث تغيير مهم بحياتها وخطوة أولى على طريق تحررها.
    باءت محاولات الزوج ثنييها عن هذا النشاط بالفشل أمام إصرارها، ليتطور الخلاف بينهما مبلغاً جعلها تطلب الطلاق، وبعد محاولتها الانتحار رضخ للأمر موافقاً على الطلاق، لتنتقل إلى تركيا، فهي لا تستطيع العودة إلى البلاد خوفاً من الاعتقال، ولم يعد لها أحداً بعد وفاة أهلها بالقصف، تابعت خطها التصاعدي ونمت شخصيتها بشكل ملحوظ فقد خلعت الحجاب مستمرة في مسيرة تحولاتها، كان لمعرفتها بصديقتها هيفاء العلمي (النسوية) دوراً هاماً بتعزيز خطواتها صوب الحرية، فبدت حريتها هي الأهم ولا تساوم عليها، وعي الذات هذا مصادره تجربتها الشخصية والاطلاع على جملة المفاهيم والأفكار التحررية المتعلقة بالمرأة وحقوقها، التي انتشرت وتزامنت في الأوساط السورية مع اندلاع أحداث الحراك السوري، تبنيها لهذه الأفكار الجديدة انعكس على مجمل حياتها بدءاً من مظهرها الخارجي انتهاءاً بحريتها الجنسية مع عارف، فقد تخلصت من الشعور بالإثمية في ممارسة الجنس خارج الأطر المشروعة، فالعلاقة بينهما كانت قائمة على الندية وفي جوهرها هي علاقة جنسية صرفة رغم اضفاء مسحة عاطفية في بعض الأحيان، ولم تعش حالة استلاب أمام عارف وتركته بالوقت التي أرادت هي..
    حاولت استرجاع أمير جنتها المفقودة بعد ظهوره مجدداً، لكن ظهور منى بحياته جعل الأمر أكثر تعقيداً، استيقظ لديها حس التملك لأمير وعاشت حالات من الغيرة المجنونة والوجع العاطفي حد فقدان الصواب، بالوقت الذي لم تشعر بأيًّ من هذه الأحاسيس تجاه عارف، فيبدو أن الجنس هو احتياج جسدي بالوقت الذي ينبع الحب من مكان آخر من الذوات البشرية، وقد اتضح هذا الأمر بخط علاقتها بكل من عارف وأمير، هذا الارباك كان دافعاً لها للتفكير بالسفر.
  • أمير ولد لأسرة متعلمة تنتمي للطبقة الوسطى تعطي العلم أهميةً بالغةً، لها منظومة من القيم والمثل، خضع في مراهقته إلى مراقبة صارمة من والده، حين قرر تعلم عزف العود على يد جاره أبو سعد، بهذا المعنى نشأ نشأة سوية لا انحناءات حادة بها، رغم بعض الاضطهادات التي كان يمارسها والده عليه وعلى والدته، هذه المؤثرات التربوية جلعت منه شخصية مبدئية، عفوية، متوازنة، أحب ندى حباً حقيقياً، وحين اندلعت الأحداث وجد نفسه منخرطاً بها، عمل طبيباً في المشافي الميدانية بإمكانات طبية متواضعة.
    شاهد الأجساد النازفة والجثث، فالحياة لم تكن تتسع لكل الجرحى فمنهم من قضى بسبب عدم القدرة الطبية لإنقاذه، صور مؤلمه وجارحة ملئت مخيلته، وبعد وفاة أهله قرر المغادرة إلى تركيا، كان حزنه هادئاً وعميقاً على أهله، فقد رتب وضعيتهم بالقبر تماماً بنفس الترتيب الذي كانوا يجلسون به على المادة، وبعد هذه التجربة المؤلمة وهذا الجحيم خرج مثقلاً بالتعب، لكن هو ترك الحرب لكنها لاحقته إلى ما بعد الحدود حين تعرض ومن معه للقصف وهم بالجانب التركي.. تعرف في طريقه إلى (استانبول) على عمر الذي كان صلة الوصل بينه وبين والدته منى، ربمّا لم تكن مُنى المرأة الحلم بالنسبة له، لكنَّ شعوره بالألفة والامتنان كانا كفيلان بتحريك مشاعره تجاه مُنى، رافضاً كلّ الضغوطات الّتي مارَسها كلاً من عارف وندى لفكّ هذا الارتباط.
  • منى سيدّةٌ شكّلتها الحياة فكانتَ تعيش حياةٌ أسرويّةٌ مستقرّة، كأي امرأة سورية، لكنّ الحرب أخذتَ منها زوجها الذي انخرط بالحراك الثوري لتجد نفسها زوجة شهيد وأم، مما اضطرها لتبيع كل ما تملك ومغادرة البلاد هي وابنها لتصبح مالكة لكافتيريا بتركيا، هذا الوضع الجديد رتب عليها استحقاقاتٍ نحو نفسها وابنها، امرأةٌ غيبّتْ أنوثتها إلى أن هبتّ عليها أنفاسُ رجلٍ غريب في بيتها، فتحرّكَت من غرائزها نحوه، تفتّح جسدها واستيقظت مكامن الأنوثة، حلمت بأمير، تخيلت نفسها بوضعيات غرامية رومانسية معه، أثر بها صوته العميق، راسلته على هاتفه رسائل لطيفة، انكشف حبها له، تجاوب هو معها، تحملت مضايقات ندى وغيرتها، لكنها تثق بأمير وهذا ما خفف عنها، طمحت لتكوين عائلة مع أمير، لكنَّ القدر عاندَها وقبل موعد حفلة زواجها شبّ حريق بالكافتيريا التي تملكها ليتأجل هذا الزواج.

إلى جانب تلك الشخصيات الرئيسية، نجد شخصيات أخرى كان لها دورها الذي من غير الممكن تجاوزه لما له من دور في تأطير العمل وإكسابه خصوصيته كيوسف الضاهر زوج والدة عارف، الذي ارتقى من تاجر سيارات مستعملة ليصبح قائد ميليشيا والغاً بالدم السوري، ولاعباً لأدوار سياسيةً، أما زوج ندى الذي بنمطيته ومحدوديته دفع بها إلى اختيار الانفصال، عمر الذي شكل وجوده همزه وصل بين أمير ووالدته منى، ولدينا نبيلة، فيصل، كريم، غونيش، والد غونيش، لكل منهم كان له دوره لتستقيم عوالم الرواية.
لقد تقاطعت وتشابكت مصائر كلاً من عارف، ندى، أمير لتنضم إليهم منى وباقي المهجرين في الرغبة بالخروج من تركيا إلى مغترب آخر، فالمغترب حالة كاشفة للبشر، حيث تتفلت من القيم المحمولة من الوطن الأم في غياب الأنا الاجتماعي وفي هذا المحك تظهر معادن البشر، وعلى العموم تبدو شخصيات الرواية في ظل تعقيدات الحياة وفقدان الأمان بالمكان ولا يقينية الزمن، وضياع الهوية الجامعة والواضحة، شخصيات قلقة، وبلا خطط مستقبلية سوى الرغبة بالسفر، إلى عالم مجهول، تحمل في داخلها الكثير من الألم والخيبات والانكسارات، مضطرة أن تعيش خارج مكانها الحقيقي الذي تنتمي إليه، فتبدو شخصيات مأزومة تعيش حالة من الاغتراب والقلق، هذا الانفصال المرّ عن المحيط وربما عدم قدرتها على التأقلم في واقعها الجديد، عزز لديها هذا الاغتراب، وعلى رأي (هيغل) تاريخ الإنسان هو تاريخ اغترابه.
هذا الزمن الذي قسمته الحرب، على اعتبارها الحدث الأكبر، إلى طبقات من الأزمان الظاهر منها والخفي، هذا الزمن الذي أطلق سراحه الكاتب وتركه مفتوحاً كفضاء لحياة جديدة لشخوصه، أراهُ هنا في زاويةٍ من (استانبول)، يراقبُ شخوصَه كأب يودع أبناءه بعدَ أن أدرك أنهم ليسوا له، بل أنهم أبناء للحياة .. يلوح لهم مودعاً تاركهم أحراراً، كما كانوا أحراراً في متن روايته التي هي روايتهم.

Comments

Sorry Comments are closed

    عاجل