تتزاحم الأفكار في عقلي وتزداد الغصات في قلبي مثل ازدحام النّاس في أسواق العيد، ومثل غصات الفقراء أمام عجزهم عن شراء أبسط الأشياء مع قدوم كلّ عيد جديد.
مع مرور العيد الخامس والعشرين خارج أسوار مدينتي حمص، وبعيداً عن سماع تسبيحات وتكبيرات العيد من مسجد سيدنا خالد بن الوليد.. ما زلت أصارعُ بين الحاضر والماضي، أتأرجحُ وكأنّي في أرجوحةِ حديقة منزلي التي كنا نتزاحم على ركوبها مع بقية أولاد أقاربي؛ نلعب بأبهى حلّة، ونغنّي مبتهجين، وعلى وجوهنا البريئة فرح الأعياد مردِّدين:
“يا حج محمد… يويا
عيّرني حصانك… يويا
لأشد وأركب… يويا
وإلحق اسكندر… يويا
واسكندر مات… يويا
خلّف بنات… يويا
بناته سود… يويا
زي البارود… يويا
وأنا عندي وزة يويا… تنقر الرزة يويا
والرز غالي حقه مصاري… يويا
قوموا انزلوا ما بننزل… يويا”
يويا… يا لها من كلمة تختزل طفولة وعيداً. كلمة من أربعة حروف استخدمها الأطفال في لعب الأراجيح السورية خاصة مدينة حمص.. كم تحمل في طياتها من قصص وذكريات جميلة تنتعش بها الذاكرة فرحاً، لكنّها تحوّلت بفعل الانتهازيين والمتسلقين إلى مآسٍ وأوجاع لا تنتهي، يئن بها الفؤاد حزناً!
وكأنَّ “اسكندر” الذي مات في أهزوجة الأرجوحة الشعبية التي أحفظها مثل اسمي، قد مات فعلاً، بما يحمله من تلك الصور المبهجة، وبقيت “بناته السود زي البارود” – من قتامة المشهد – تقتل فرحة الأطفال في العيد، وتقتلنا جميعاً بالبارود المتصاعد دخانه، والذي يخنقنا مع كلّ ومضة تلمع في جنبات العمر.
أمّا الإوزة، التي تنقر حبة الأرز، فأراها اليوم مثل الذين تسلّقوا على مأساتنا ويتنعمون بأوجاعنا، ويأكلون أرزنا بأموالنا ودمائنا الغالية ووجع أوراحنا.. وهم يعيشون بيننا وتحت رايتنا “يتأرجحون”!
“قوموا انزلوا.. ما بننزل؛ غصب عنكم ما ننزل.. نرميكم بالعاصي… ما ننزل”.
نعم… لن ننزل عن أرجوحة العيد، ولن نستسلم لأصداء التطبيع مع الشياطين، مهما علت التهديدات والمخاوف التي تحيط بنا، فأطفالنا الملائكة لن يقبلوا بذلك.
سنبقى نتلقى المعايدات الصامتة في منفانا البارد دون لقاء الأحبّة وتقبيلهم، فصراع الحقّ ضد الباطل يتطلّب العناد والديمومة والثبات، مثل عناد طفل يبكي دون ملل لأخذ قطعة حلوى، فهو في النهاية سيحصل عليها ويتلذذ بطعمها، ليبتسم بنشوة النّصر بعد مُرّ البكاء.
عذراً التعليقات مغلقة