بدأت أحداث المجزرة في الرابع والعشرين من شهر كانون الثاني/ يناير من عام 2012، واستمرت لثلاثة أيام، قامت خلالها قوات الأسد بحصار حي كرم الزيتون وقصفه تمهيداً لاجتياحه من قبل الشبيحة وميليشيات “الأمن العسكري”.
وعقب اقتحام الحي بدأ عناصر نظام الأسد بتنفيذ حملة إعدامات ميدانية استهدفت المدنيين الذين كانوا في منازلهم، ولم تفرق تلك الحملة بين رجل أو طفل أو سيدة، حيث تمت تصفية أكثر من 20 مدنياً بإطلاق الرصاص عليهم بشكل مباشر من مسافات قريبة.
الصحفية عائشة صبري التي شاركت في توثيق المجزرة روت في حوار خاص مع وكالة “سنا” بعضاً من تفاصيل هذه المذبحة، وكشفت معلومات عن كيفية اقتحام الحي ودوافع قوات الأسد لارتكاب هذه الجريمة.
نية مبيتة
قالت صبري إن قوات الأسد عملت قبيل دخولها إلى منازل المدنيين في كرم الزيتون على حصار الحي من كل الجهات عبر الحواجز العسكرية، كما مهّدت نارياً لدخولها عبر القصف المدفعي بقذائف الهاون، ورصاص القناصات.
واستمر هذا التمهيد لثلاثة أيام (24 و25 و26 /01/ 2012)، ما خلّف نحو ثلاثين قتيلاً وعشرات الجرحى حيث ازدحم المستشفى الميداني وسط حي كرم الزيتون بالقتلى والجرحى، وفقاً لصبري.
وحي كرم الزيتون كان مقسماً إلى عدة أقسام، حيث وقعت المجزرة في القسم الذي القريب من “حاجز النازحين” الذي يتمركز فيه عدد من أبناء الحي من الطائفة العلوية، ويرأسه المدعو أبو ربيع صاحب “فرن النازحين”.
وبعد إطباق الحصار، وانتهاء التمهيد الناري، اقتحم عناصر “الأمن العسكري” وميليشيات محلية من أبناء الحي منازل المدنيين الذين لم يغادروها في شارع “بقالية الجولان” المقابل للحاجز، وقاموا بتصفية كل من وجدوه في طريقهم.
وراح ضحية هذه المجزرة 22 قتيلاً تم توثيقهم بالاسم والفيديو من بينهم سبع سيّدات إحداهن حامل وعشرة أطفال (5 إناث و4 ذكور وجنين).
في حين تمكن الأهالي فيما بعد من إنقاذ جريحين شقيقين رُضّع هما: “علي بهادُر ذو السنتين، وغزل بهادُر ذات العشرة أشهر”، وتؤكد صبري أن علامة الإصابات ما تزال موجودة على جسدي الطفلين لتبقى شاهدة على هذه المجزرة.
وساطة لإخلاء جثث الضحايا
منعت قوات الأسد في بادئ الأمر الأهالي من الوصول إلى المنازل التي وقعت فيها المجزرة، لكنها سمحت فيما بعد بدخول أحد أبناء الحي من الطائفة الشيعية يُدعى “أبو حيدرة”، الذي تحدّث مع الضابط المسؤول عن حاجز النازحين، فسمح له بالدخول.
ومن ثم دخل “أبو حيدرة” مرة أخرى رفقة سائق سيارة “سوزكي” لانتشال الضحايا وإحضارهم إلى المستشفى الميداني الواقع في وسط حي كرم الزيتون، ليتم تشييعهم في اليوم التالي في جمعة “حق الدفاع عن النفس” في 27 / 01 / 2012 عبر مظاهرة سلمية، ردد المتظاهرون خلالها هتافات تؤكد على استمرارهم في الثورة.
بينما احتجزت قوات الأسد عائلة محمد تركي المحمد وزوجته ابتسام الخضر، وأولادهما الأربعة (أحدهم معاق)، وفيما بعد تم إرسال جثثهم التي تم التمثيل بها إلى مستشفى حمص العسكري.
وهناك أجبر النظام أقاربهم على توقيع ورقة مفادها بأنَّ “العصابات المسلحة” قتلتهم، كشرط لاستلام الجثث، ولم يتمكن الأهالي من الوصول إليهم وتشييعهم حتى يوم 30 /01 / 2012، أي بعد خمسة أيام من المجزرة فتم تشييعهم بجنازة منفصلة عن الأولى، وفقاً لمحدثتنا.
مجزرة كرم الزيتون شرارة لإشعال الطائفية في حمص
تؤكد صبري أن نظام الأسد أقدم على ارتكاب مجزرة كرم الزيتون بغية تحقيق عدة أهداف، فبالإضافة إلى رغبته في الضغط لإيقاف المظاهرات السلمية، “كان يسعى لدفع الشباب إلى التسلّح، وإشعال الفتنة الطائفية بين أبناء الحي الواحد الذين كانوا جيراناً يأكلون من ذات الصحن”.
وترى صبرى أن مجزرة كرم الزيتون الطائفية تعدّ “نقطة تحوّل الثورة في محافظة حمص من السلمية إلى المسلحة في سبيل الدفاع عن المدنيين، وهذا ما أراده نظام الأسد لتبرير عمليات قتل المدنيين وتهجيرهم والتنكيل بهم، بما أسماه الحرب على الإرهاب”.
لماذا حي كرم الزيتون؟
اختار نظام الأسد حي كرم الزيتون لارتكاب هذه المجزرة نظراً لموقعه الإستراتيجي كونه يفصل بين الأحياء الموالية ذات الغالبية العلوية، بعضها عن بعض، ويمتاز بخليط سكاني من جميع الطوائف.
كما أنَّ حي كرم الزيتون يعدّ واحداً من أكبر الأحياء في مدينة حمص في تعداد السكان، إذ بلغ عدد سكانه نحو سبعين ألف نسمة.
المجازر لا تنسى بالتقادم
أكدت صبري أن ناشطي محافظة حمص يعملون بشكل حثيث ومستمر لإحياء ذكرى مجازر قوات الأسد وتذكير المجتمع الدولي بها رغم مضي سنوات عديدة على وقوعها، خاصة أن المجتمع العربي والدولي يعمل على التطبيع مع نظام الأسد ونسيان جرائمه بدلاً من محاسبته.
وشددت صبري على أن أهمية توثيق المجازر الطائفية تتمثل في “حفظ سردية الثورة وحتميّة استمرارها وإسقاط النظام المجرم وكل من سانده من الميليشيات وقوى الاحتلال الغاشمة، إضافة إلى تعليم الأجيال حقيقة وتفاصيل ما جرى من جرائم حتى يتم القصاص من المجرمين”.
وأشارت إلى أن رابطة نشطاء الثورة في حمص -والتي تنتمي صبري لها- عملت على إعادة ملف المجازر الطائفية التي ارتكبها النظام في حمص وريفها عبر ذبح الأطفال بالسكاكين والإعدامات الميدانية وحرق الناس مع منازلهم، والتي لم تأخذ حقّها من التغطية الإعلامية مع توثيق كامل لتفاصيل كلّ مجزرة منها وقصص ضحاياها والناجين منها.
وفي هذا الإطار، تم إطلاق حملة تحت عنوان “دماء منسية” عام 2014 بهدف تسليط الضوء على تلك المجازر، كما أنه في عام 2022 تم إعادة العمل على هذه الحملة من جديد عبر الوقفات الاحتجاجية وصنع المواد الصحفية المكتوبة والمرئية.
وأضافت: “بصفتي أحد منسقي الحملة وأهتم بالحفاظ على أرشيف الثورة، أوكد أن توثيق المجازر وخاصة الميدانية الطائفية تأتي أهميته لإحصاء عدد الضحايا وتفاصيل كل مجزرة على حدى، كون هناك مواد إعلامية تخلط بين المجازر خاصة أن كرم الزيتون وقع فيه مجزرة ثانية في 12 / 03 / 2012 كانت الأكبر بعدد الضحايا والأشنع بحرقهم والتمثيل بهم واتهام الثوار بارتكابها”.
ودعت صبري ناشطي الثورة إلى توثيق المجازر الميدانية في مختلف المحافظات السورية، وذلك لإحالة ملف هذه المجازر إلى الجهات الحقوقية التي تقوم بدورها بإيصالها للمحاكم الأوروبية ليتم محاسبة مجرمي الأسد، مؤكدة أن هذا العمل يُفيد في توثيق تاريخ أحداث الثورة بشكل منظّم ودقيق، كي تُحافظ عليه الأجيال القادمة ولا يبقى طي النسيان.
عذراً التعليقات مغلقة