إن الذي يدفعنا لتقصي حدود المفاهيم والمعاني فيما يحدث حالياً، هو نتائج المنفعة البراغماتية لعصر ما بعد الحربين العالميتين، وبزوغ مفاهيم الحرية (الليبرالية) كأحد المعالم الأساسية للرأسمالية الغربية (الأمريكية)، وانهيار المنظومة الاشتراكية ممثلة بالاتحاد السوفيتي.
لقد أصبح الكائن البشري يحيا في دائرة تبديد طاقته الإبداعية وحريته على نحو عبثي، كتوطيد الاستهلاك كقيمة، وفرض قطبية اقتصادية تكنولوجية مركزية تشجع على نحو نهم استهلاك كل شيء، حتى القيم والإيديولوجيات دخلت في غمار هذا الاستهلاك.
هذه القفزة التي أنجزها المجتمع الغربي على صعيده الاقتصادي والسياسي، كانت بمثابة الذهاب إلى الحدود القصوى للنموذج الرأسمالي ليصبح النهج الأساسي المفترض الذي يجب أن تحيي المجتمعات والأنظمة الحاكمة من أجله.
لمحة عن جذور نفسية:
يمكن القول إن المجتمعات العربية يوغل في صميم بنيانها مفاعيل تاريخية (إن شئنا القول بدوية) فسيد العشيرة هو قاضيها وحاكمها وملهم بطولاتها، وهو السيد الذي تجتمع فيه إرادة الكل، وهو في عصرنا رب المؤسسة الاقتصادية والسياسية لا بل وحتى الدينية.
إن فقدان الهوية الحضارية بالمعنى الفكري والإبداعي، وتبدد وعود الأنظمة القومية الثورية، والإيغال في الاستبداد السياسي والاجتماعي والفكري، جعل المجتمع يعيش بموجبها حالة من الإنكار وثنائية المشاعر بين واقع مؤلم وفارغ روحياً ومادياً، وبين انتظار وشوق للمُخلص المنتظر.
وبعد أن كان الأب راعياً وحامياً وملهماً (يتجلى ذلك في العديد من موروثاتنا الأدبية والتراثية والدينية والسياسية) ليرى نفسه اليوم أمام جدار جماهيري رافض لسيد العشيرة الظالم.
ويمكن أن نفكر أن المجتمع هو من فرض حتمية هذه المسؤولية الأبوية. لقد وجد هذا الأب نفسه رهين محبسين، بين واقع تتكشف فيه هزائمه في كل يوم ابتداء من تاريخ النكبة الفلسطينية 1948، وحتى حروب الأقاليم العربية الداخلية، وبين قناع ملامحه النفسية الأبوية التي أقصت جميع الأبناء عن المشاركة بواقعهم وبمسؤوليتهم عنه.
لكن النقطة المفصلية هنا.. من سيقتل هذا الأب؟ هل الأبناء الطامحون في ظل الثورة، والذين (من المفترض) أن يعيدوا وضع أخلاق جديدة. لا للقتل ولا للهدم ولا لطغيان جديد؟ أم أبٌ أقوى وأعتى من عشير آخر…!
إن التخلص من نير التسلط والاستبداد يتم بالفعل، وليس بقوة القول، وعند اكتمال الشخصية الجمعية، فالتمكن من قتل الأب في هذه الحالة دون نضوج هذه الشخصية، سيطلق الطاقة من عقالها، فالعاطفة في هذه اللحظة (الاندفاعات) هي سيدة الموقف.
إن النتيجة المترتبة على ذلك تكون بتوسع دائرة الأنا واحتلال أراض جديدة من ساحات الأنا الأعلى (القيم الاجتماعية التي يفرضها تطور المجتمع).
إن قسطاً كبيراً من المكبوتات اللاشعورية الجمعية ستغدو منذ اللحظة الأمل المنشود والحرية الكبرى. فالعنف المكبوت والرغبات المحرمة في نظر الأنا الأعلى هي صاحبة الطاقة المنفلتة، وسيغدو الصراع هنا، وقد تجلت فيه مظاهر العصاب الجماعي ملاذاً آمناً لكل ذات خسرت موقعها (تموضعها) الاجتماعي. لنا أن نتخيل مقدار الفوضى الحاصلة من جراء ذلك! وكلما كان حراك هذه الفئة الاجتماعية متواتر ومتلاحق، كلما كانت الطاقة المتبددة من أجل حسم هذا الصراع أعظم.
إضافة إلى ما سبق يمكننا أن نستخلص جملة من المسائل قد تكون المسؤولة عن انكسار التغيير في العالم العربي, وهي بمثابة بعض المحددات لواقعنا الاجتماعي:
أولاً: انعكاس التوجه الزمني في أغلب البيئات الاجتماعية العربية، أي أن سير الخط الزمني هنا متجه نحو الماضي وليس باتجاه المستقبل، ويظهر ذلك واضحاً في مجمل النشاطات الثقافية والفكرية والتجديدية (حركات الإصلاح والتنوير العربي) والمؤسسات التابعة لها.
فكلما أردنا النهوض من سباتنا الحضاري، وجدنا أنفسنا في ردهات الماضي, نعيش مخاوفه وضياعه من جديد. فالحركة عندنا منوطة بالتجديد الشكلي وحسب، دون التحلي بشجاعة نقد الذات. ونجدنا نسعى دوماً لتجديد الإطار، دون النظر إلى اللوحة ونقد هفوات وأخطاء مبدعها. يبدو ذلك جلياً أن مذاهب التاريخ النقدية لم تلق رواجاً واستحساناً لدى الذات العربية.
ثانياً: اغتراب الذات الاجتماعي، والبحث عن تموضعها (الذات) في واقع اجتماعي متخيل (افتراضي) عبر شبكات الاتصال الرقمية. وكلما ازدادت هزيمة الذات في تأكيد وجودها الموضوعي، عبر الانجازات الفكرية والعلمية الحضارية, كلما ازداد انفصالها عن واقعها الاجتماعي الراهن, وكان التوجه المستقبلي لدى أفراد المجتمع ضبابياً .
ثالثاً: تشوش مفهوم المواطنة، أو غيابه وضبابيته في عدد من البيئات العربية, خصوصاً لتلك التي لم تنجز مشروعها الوطني, فالمجتمع لا يجري قياسه وفق واحدات وطبقات متراصفة (كما تتخيل النخبة الماركسية لدينا) تتنافس فيما بينها من أجل الملكية, بل إن انخراط الفئات الاجتماعية كافة ونذكر هنا خصوصاً المفكرين والمبتكرين, والذين نشدد على دورهم, فالصناعي إذا صح القول لن يتمكن من الصمود والاستمرار, إن لم يجدّد وسائل إنتاجه ليتمكن من المنافسة مع الآخرين.
إن وجود منافسين من هذا النوع سيولّد جراء صراعهم ذاك, فئةً أو متحداً اجتماعياً من ذوي الأفكار والإبداعات في شتى العلوم النظرية والتطبيقية (الجمعية العلمية البريطانية والفرنسية مثلاً), وبالتالي فإن المنتج بصورة من الصور, هو رمز وهوية فكرية تتجسد فيه تطلعات المبدعين. وبالتالي النتاج الحضاري للأمة، وهوية مواطنيها في هذه المرحلة هو قدرتها على خلق الجديد والأصيل. إن تشظي نموذج الدولة العلمانية، وصعود التيارات السلفية الثورية الأولى (الإسلام السياسي) أحبط الرؤية النهضوية بدايات القرن المنصرم أمام الأحقية السلطوية في قيادة الدولة والمجتمع. إن المواطنة يتم بنائها عبر التحول التدرجي للمجتمع من طور إلى آخر، دون إقصاء أو إهمال أية محركات تاريخية أو مجتمعية.
رابعاً: إذا كان تخطي السلطة القائمة يعني الدخول في مسار الديمقراطية، فأين يمكن أن نجد تلك الممارسة للحرية على ضوء تاريخنا السياسي، أو حتى التربوي, أو الفكري ؟!… إن التاريخ الذي خاضته أوروبا من أجل التخلص من أبوية الكنيسة الكاثوليكية، كان حافلاً بشجاعة فذة لرجالات العلم والسياسة، من أمثال (جيوردانو برونو) المحكوم بالهرطقة عام 1600م، وغاليليو من بعده، وغيرهم كثر.
ويجب ألا يغرب عن بالنا أن العلمانية سبقت الثورات العلمية والاستكشافية الكبرى، مع أن الكنيسة هي من مهد لظهورها في مواجهة الحراك الاجتماعي العلمي والنهضوي في أوروبا. ومع أن هولندا في القرنين السابع والثامن عشر الميلاديين كانت المتنفس الحر للحركة العلمية, فإننا نجد في المقابل أن دار الحكمة في بغداد, التي تحوي ما يزيد عن مئة ألف مجلد في شتى مجالات الفكر, لم تستطع الفئة الحاكمة فيها من إنقاذها بعد ما أغار المغول على بغداد عام 1258م لولا الجهود الفردية لنصير الدين الطوسي, وعمر الخيام , وأولاد موسى بن شاكر, الذين نقلوا معهم أربعة آلاف مجلد من عيون الكنوز الفكرية لدار الحكمة في بغداد, وأسسوا فيما بعد مرصد (مراغه) في سمرقند منتصف القرن الثالث عشر الميلادي , الذي يعد بحق المرصد والمؤسسة العلمية الأبرز في التاريخ الإسلامي قاطبة.
ألا يحق لنا أن نتساءل، لماذا لا نرى كل ذلك وأكثر عيباً في بنيانا؟ ثم ما هي الحرية؟ هذا السؤال الذي لم نجب عليه حتى الآن، ولا نعلم على وجه الدقة حدوده ومسؤولياته. والتفصيل في ذلك يحتاج إلى جهود مكثفة وعميقة وجريئة بالآن نفسه، من أجل مواجهة الذات، قبل أن نلقي اللوم على الآخرين.
عذراً التعليقات مغلقة