أحد أوجه اختلاف ما يحدث الآن أنها المواجهة الإسرائيلية-الفلسطينية الأولى، على هذا المستوى، في زمن وسائل التواصل الاجتماعي. وهي تنفرد بهذا الأثر عن مواجهات سابقة خلال العقدين الأخيرين، بمعنى أنها صارت قضية ساخنة، يُختلف عليها وحولها ضمن طيف واسع جداً عالمياً، ولدى الناشطين باللغة العربية. هذا قد يعود بالفائدة والمؤيدين على جانبي الصراع، إلا أنه يعرّض الصراع نفسه لمزيد من أنواع سوء الفهم التي باتت لصيقة بالسوشيال ميديا لجهة كونها مرتعاً للشعبوية، بل الشعبوية المتعالمة على ما سواها بذريعة أن كل ما هو قبلها صار تقليدياً متقادماً. وليس خاصاً بالوضع الفلسطيني أن الشعبوية التي انتعشت على أرضية رفض “الصواب السياسي” راح أربابها يطرحون أنفسهم رمزاً لصواب جديد.
مصيبة الشعبوية في حالتنا هذه أنها تستأنف عمل أيديولوجيات أحادية بائدة، إذ يستسهل أصحابها طرح إجابات وحيدة، بوصفها جامعة مانعة، على واقع معقَّد بطبيعته، ويكفي أن نقلّبه على عدة وجوه “ولو على سبيل التمرين الذهني” كي يتبدد ما كان يُظنّ أن صواب مطلق من قبل. والسيء في تطابق الشعبوية مع الأيديولوجيات البائدة أن الأولى تستأنف مقولة “لا صوت يعلو على صوت المعركة”، إذ تعطي لما هو على السطح الآن الأولوية المطلقة إما بزعم ضرورته الملحّة أو بزعم عدم الحاجة نهائياً إلى مستويات أخرى من الفهم.
هناك مثلاً أصوات بالعربية على السوشيال ميديا تبرر الحرب الإسرائيلية الحالية بـ”حق إسرائيل بالدفاع عن النفس”، وهي تختلط بأصوات تدين هجوم السابع من أكتوبر على أرضية عواقبه الفادحة على غزة. فقط الشعبوية تخلط بين الرأيين، في حين أن الثاني منهما مبني على قراءة للوقائع، وربما على موقف مبدئي من حماس، أما الأول فهو مزيج شعبوي رثّ، قد يكون مبنياً أيضاً على معاداة حماس إلا أنه يغالط باستخدام تعبير “حق إسرائيل” الذي يحيل أصلاً إلى مفهوم قانوني، بخلاف الاستخدام الحالي الذي يغطي عملية ثأرية خارج كافة قوانين الحرب والاتفاقيات الدولية المتعلقة بها.
عطفاً على المثال السابق، نقترح ثلاثة مستويات يُستحسن عدم الخلط بينها باعتباطية، علماً أن الخلط جارٍ ومن مواقع مختلفة أو متعارضة حتى. المستوى الأول هو مستوى الحق النظري، والثاني هو المستوى الحقوقي متعيّناً بمجمل القوانين والقرارات الدولية، وبتلك الخاصة بالقضية الفلسطينية بصرف النظر عن اعتبارها منصفة أو غير منصفة. أما المستوى الثالث فهو السياسي المباشر، وإذا أمكن الحديث عن مستوى رابع فكري فهو يلحظ بالضرورة المستويات الثلاثة، باستثناء التسطيح الذي يجهد لفرضه شعبويو اليوم وأيديولوجيو الأمس.
في مستوى الحق، يرى كثر أنه من غير المفيد استرجاع مناظرات حول أحقية الفلسطينيين بفلسطين أو اليهود بأرض الميعاد، وكي لا تكون هناك مزايدة على أصحاب القضية فهُم قبِلوا مبكراً التنازل عن حقهم الحصري بفلسطين. إن فكرة تحرير فلسطين من البحر إلى النهر و”رمي اليهود في البحر” هي فكرة شعبوية رافقت الأيديولوجيا القومية، بينما كانت منظمة التحرير واضحة في برنامجها الذي ينص على دولة ديموقراطية على كامل التراب الفلسطيني تعترف بالأمر الواقع السكاني.
بدءاً من منتصف السبعينات، بدأت المنظمة التراجع عن مطلب الدولة الواحدة، وراحت ترضخ أكثر فأكثر لمتطلبات القرارات الدولية المبنية نظرياً على قرار التقسيم، من دون الأخذ بتفاصيله التي تواطأ الجميع على أنها صارت من الماضي. كثر يلومون الفلسطينيين والعرب على عدم قبول قرار التقسيم، ثم على التأخر في قبول قرار مجلس الأمن 242، لأنهم ضيّعوا فرصاً أفضل لحل القضية. ومن دون أدنى تبرير للخطايا السياسية الفلسطينية والعربية، فإن تجربة القبول الفلسطيني والعربي بالقرارات الدولية لم تأتِ بنتائج أفضل فيما بعد لأن إسرائيل غير مبالية بها، ولأن العالم غير متحد ومصرّ على تنفيذها. هذا فقط شرح لواقع الحال، ولا يهدف إلى شيطنة العالم الذي قلّما كان متحداً على أمر ما.
الوقائع تقول أن الفلسطينيين تقدّموا مرتين على إسرائيل، مرة عندما تنازلوا عن المفهوم الشائع للحق، وقبِلوا بدولة واحدة نهائية لكل سكانها، ومرة ثانية عندما قبِلوا بالقرارات الدولية التي لا تتناسب حتى مع مفهومهم المستجد لحقوقهم. في المرة الأولى لم تتنازل إسرائيل في المقابل عمّا تعتبره حقاً لجميع اليهود بالقدوم إلى فلسطين التاريخية، وفي المرة الثانية لم تقبل إسرائيل بتطبيق القرارات الدولية الخاصة بالصراع. وقد لا يكون واضحاً لكثر أن مطالبة إسرائيل منظمة التحرير بالتنازل عن ميثاقها لم تستهدف إنهاء الكفاح المسلح بقدر ما كانت تستهدف مطلب الدولة الواحدة، وكان ذلك بمثابة مرحلة تسبق تقويض حل الدولتين أيضاً.
ليست المسألة بوجود يمين إسرائيلي متطرف حاكم يرفض السلام مع الفلسطينيين؛ هي في اتخاذ إجراءات متواصلة على صعيد الاستيطان والتهويد، والإصرار على يهودية الدولة، والتنصّل بتلك الإجراءات من اتفاقية أوسلو من دون إعلان عن دفنها. هنا أيضاً توجد حالة شاذة خطيرة على الصعيدين السياسي والحقوقي معاً، فالمستوطنات الإسرائيلية “المتزايدة بعد أوسلو” قطعت الطرق على حل الدولتين، ولو افترضنا أن الفلسطينيين قبلوا بالأمر الواقع، وقرروا البقاء كمواطنين كاملي الحقوق تحت السلطة الإسرائيلية فالأخيرة لا تقبل بهم أو بهذا الحل لأنها تعتبرهم خطراً ديموغرافياً، وهي رغم ممارساتها كسلطة احتلال غير مستعدة أيضاً لتعود سلطة احتلال بالمعنى القانوني بعد أن أعفتها اتفاقيات أوسلو من ذلك العبء.
تحويل غزة إلى سجن حقيقي، بينما يجري حثيثاً استيطان مزيد من أراضي الضفة، هما ضمن نهج إسرائيلي قاد ويقود إلى استعصاء على صعيد السياسة لا حلّ منطقياً له سوى بتهجير فلسطينيي القطاع والضفة، مع التنويه بأن مستقبل الضفة سيكون أسوأ من واقع القطاع كلما استحكمت فيها عمليات الاستيطان. هذا النهج يتطلب تفكيراً أعمق بكثير من مجرد التوقف عند عواقب هجوم حماس الأخير وعمليات الثأر الإسرائيلية المتواصلة. وتحميل حماس المسؤولية عن رد فعل إسرائيل الثأري يكتسب نزاهة بالانتباه إلى نهج القتل البطيء المتعمد، لئلا يبدو أصحابه كمن يقدّموا نصيحة تنجي الفلسطينيين من القتل بالقول: انتحروا ببطء وصمت. والحديث هنا عن حلّ حقيقي في السياسة، حلّ يضمن كرامة الأحياء، فلا يتعالى الذين يطرحونه على أصحاب المأساة ليرون مجرد بقائهم على قيد الحياة كافياً.
بالطبع سيكون مفيداً دائماً الحرصُ على أرواح الجميع خاصة من المدنيين، وهو مبدأ وغاية معاً، إلا أن هذا الحرص النبيل وحده ليس بمثابة تفكير في السياسة، ما لم ينطلق من كون الأخيرة تتوخى الأفضل للأحياء، فيكون درء الموت عنهم أدنى عتبة. ليس وقف إطلاق النار هو الملحّ فحسب، بل أيضاً التفكير السياسي الجاد في سلام مستدام يحفظ كرامة الجميع. في انتظار أن تكون الظروف مهيّأة لذلك، إن لم تكن واردةً محاولةُ فهْم الأضعف فمن الممكن على الأقل عدم جَلده بفتات الشعبوية التي تدّعي حرصاً عليه أو معرفة بأحواله أكثر منه، أو تلك التي يحرّضه أصحابها على الشهادة بينما يتجنبونها ليل نهار.
Sorry Comments are closed