مقدمة: تهدف هذه المقالة إلى توضيح الفارق بين نموذجين من المجتمعات، المجتمع السياسي وتمثله السلطة، والمجتمع العلمي أو ما يسمى المتحد العلمي وفق توماس كون Thomas Kuhn (1996-1922) في مقاربة بنيوية لكليهما. على ماذا تنبني السلطة السياسية؟ وكيف تتحول من نموذج سياسي أو نظرية إيديولوجية إلى التسلط؟ أي السلطة ومفهوم النرجسية النفسي. كذلك ما هو المتحد العلمي ودور النموذج paradigm في أحداث ثورات على العلم العادي أو الكلاسيكي؟ ومن ثم استنتاجات توضح الفارق بين كلا المجتمعين ودورهما الواقعي والإنساني.
السلطة والنرجسية: لا شك بأن أكثر ما يثير الجدل في أيامنا هذه هو الصراع بين مؤسسة السلطة من جهة، والمثقف أو العالم من جهة أخرى، بسبب من عوامل مختلفة ومتشابهة بين كلا المجتمعين، حيث يعمد السلطوي (السياسي) إلى ترسيخ نظرته وحضوره في العالم الواقعي لدى الجماهير بناء على نظرية ما أو إيديولوجيا يلبسها كقناع، أو يدفع بها كحقيقة اجتماعية أو تاريخية، وهو بذلك في عالمنا العربي يحقق مطلباً نرجسياً لديه في إزاحة كل الرؤى الأخرى للواقع، وباعتبار أن الدافع لإحلال نظرته وطريقته في تمكين سلطته هو نرجسي في أساسه، فمن السهل والاعتيادي غلبته على كل حضور مغاير سواءً كان اجتماعياً أو ثقافياً أو علمياً بالقوة، أي انتقال هذه الدوافع النرجسية من حيز التصور الذاتي للسلطوي إلى ميدان الواقع الاجتماعي.
وباعتبارها نرجسية (دوافع السلطة) فلا يمكن لها إلا أن تدافع عن حضورها في الواقع الاجتماعي وتهاجم كل الذوات والمؤسسات التي تهدد حضورها الاجتماعي أو تنال منه في كل المجالات، فهي لا تقبل أي تنازلات، أو اختزالات أو مشاركة أو ريبة أو أي نوع يمكن أن يخدش نقاء صورتها ومثاليتها المفرطة أمام ذاتها، أو لدى حاملها.
في هذا الطور سوف تعلي من حضورها وتأتي على إزاحة كل ما يعكر صفو هذه الرؤية المشتهاة عبر ما يمكن تسميته (سادية السلطة) أي امتلاكها لكل مفاعيل القوة والتلذذ بتأكيد السيطرة، فهي لا يمكن أن ترى موضوعاً للحب سوى ذاتها أو ذات النرجسي، لأنها الأكمل والأنقى والمشتهاة في آن معاً، وهي منذ ذلك الوقت تغدو فاعلة وقوية ومؤثرة.
هذا النمط من التطور الكلاسيكي لثقافة السلطوي الذي نلحظه في عالمنا العربي تعضده أو تؤازره قوى أخرى ذات أصل تراثي أو تاريخي أو عقائدي.. الخ. فمنذ أن تسيّدت هذه الذات وأعلت من حضور ذاتها وأزاحت كل وجود ممكن في سبيل حبها لذاتها، أمست… سلطةً. لا يمكن لهذا النوع من التفرد بالقوة أو العسف أن يقبل بالمشاركة خلا في حدود الشكل الإجرائي أو التنفيذي، وتغدو بذلك مؤسساته أذرعه التي تنمو بطول الوقت والتي تغتذي بوهم السلطة دون أن تدرك أنها مجرد أدوات يتطلب صيانتها واستبدالها من وقت لآخر. وهذا ما يجري عندما تشاء السلطة استبدال نماذجها الإجرائية في أي وقت حسب ما تقتضيه ظروف بقائها وتمكين سيطرتها.
المتحد العلمي: في الجانب الآخر من المجتمع نلحظ المتحد أو المجتمع العلمي كما عرّفه توماس كون بأنه: (مجموعة القيم المشتركة والقناعات الراسخة التي يتقاسمها فريق علمي، بحيث يشترك العلماء في طريقة موحدة في النظر على الأشياء ومنهج أيضاً موحد في انجاز أبحاثهم، ويعتبر النموذج أو البراديغم Paradigm هو المنهج الذي يوحدهم). وفق ذلك تتراكم المعارف والنظريات في حقل من حقول العلم لتنتج (أصدق) تفسير للظاهرة الطبيعية أو للقضية العلمية.
ويفضي هذا التوسع النظري والتطبيقي في آن معاً لبزوغ مشكلات جديدة تعترض النموذج المشيد من قبل المتحد العلمي، أو كما يسميه كون (العلم العادي)، وهذه المشكلات هي ما يضطر الباحثين والعلماء للبحث عن نموذج جديد للنظريات الجديدة المطروحة والتي تسعى لتفسيرات أشمل وأصدق من سابقاتها. وهنا يحدث الصدام المعرفي بين نظريات العلم العادي ونظريات (العلم الثوري)، حتى ينجز عالم ما أو مجموعة من العلماء ثورة نظرية على ما سبقه من العلم العادي, مثال ذلك النظرية النسبية الخاصة والعامة في مجال الجاذبية مقارنة بالفيزياء الكلاسيكية النيوتونية، وهذه النظريات الجديدة بدورها تحوي أو تتضمن حلول كل لمشكلات في النموذج السابق كحالة حدية أو جزئية من تصورها العام للقضية العلمية. وبذلك تكون النظرية الجديدة قد أسست نموذجاً جديداً وثورياً في مقابل النظرية التقليدية أو الكلاسيكية.
وفق ما سبق فإن المتحد العلمي يجدد بنيانه ونموذجه في كل مرة من دورته التاريخية وفق أطروحة كون بثورات علمية تحقق أفضل التفسيرات وأصدق النتائج. ولا يمكن من وجهة النظر هذه استقرار وثبات نظريات العلم العادي في ضوء التحديات التي تفرضها المستجدات أو المشكلات التي تطرأ على (نموذج) العلم العادي. من وجهة التحليل السابقة تفشل كل الذرائع في بقاء واستمرار نماذج العلم العادي في مقابل النظريات الجديدة، وهو ما يؤدي إلى صدام بين نموذج العلم الثوري ونموذج العلم العادي والذي يمثل بصورة ما وجهاً استاتيكياً (ساكن) للقضية العلمية.
نتائج واستنتاجات:
في كلا المقاربتين عن بنية السلطة والنموذج العلمي اقترانات وتباينات يتداخل في كليهما الإرث الثقافي والمعرفي من خلال القوى الاجتماعية الفاعلة فيهما وتتباين طرق تطورهما بين ما هو نموذج معرفي بالنسبة للمتحد العلمي وبين ما هو عقائدي ونفسي بالنسبة للسلطة يمكن إجمالها بمجموعة من الاستنتاجات التالية:
أولاً: السلطة السياسية ترتبط عضوياً بمجموعة هائلة من القوى الاجتماعية والتاريخية الفاعلة والتي تحقق من خلالها حضورها الموضوعي أو الواقعي. بينما المتحد العلمي يمثل بحد ذاته مجتمعاً معرفياً مستقلاً تحدده وظائف مختلفة بين الأفراد أو حتى بين مؤسساته الأكاديمية أو البحثية.
ثانياً: السلطة السياسية ذات بناء هرمي حتى بالرغم من وجود أو غياب مؤسسات السلطة المختلفة، بينما في المتحد العلمي لا وجود لهذا البناء الهرمي إلا في مستويات المسؤولية المعرفية، بمعنى أن هنالك ترابطاً عضوياً بين جميع أعضائه وتؤثر وظيفة كل عضو مهما بلغ نتاجه في باقي الأعضاء الآخرين عبر برامج منهجية من العمل والمسؤولية.
ثالثاً: تحتاج السلطة دوماً إلى أدوات تنفيذية تختلف وتتنوع حسب أشكالها بينما المتحد العلمي لا يحتاج ذلك، وعوضاً عن ذلك يؤدي دوراً وظيفياً في التنمية الفكرية والوعي ضمن أفراد مجتمعه وعلى المستوى العام.
رابعاً: ترتبط الأيديولوجيا ارتباطاً محورياً وعضوياً بالسلطة، بمعنى أن السلطة تحتاج على الدوام إلى بناء نظري (نظرية سياسية) يتحدد من خلالها نموذج السلطة القائم، بينما المتحد العلمي تدمره الأيديولوجيا، أي لا يمكن أن يتحدد دور ووظائف المتحد العلمي وفق أي نظرية أيدولوجية (نظرية سياسية) بشكل عام، وهو ما يقيض مؤسسة المتحد العلمي.
خامساً: ترتبط الميثودولوجيا (المنهجية) أي الطريقة المتبعة في البحث العلمي ارتباطاً أساسياً بالأفراد والمؤسسات البحثية سواء بسواء، وتعد المنهجية العلمية إرثاً معرفياً وفضاءً أساسياً لعمل المتحد العلمي، بينما السلطة السياسية تخلو من أي منهج علمي معرفي معاصر.
سادساً: تحدث الثورات في السلطة السياسية إما من خلال تآزر نخبة سياسية مع المجتمع أو بدون، من أجل إحداث تغيير في نمط وشكل السلطة السياسية، بينما الثورات العلمية تحدث بعد فترات من العلم العادي، أو أن المشكلات العلمية المستجدة لا تحققها وتفسرها وتتنبأ بنتائجها نماذج العلم العادي أو الكلاسيكي.
سابعاً: التغيير في السلطة السياسية لا يحدث عبر دورات تاريخية متعاقبة أو حتى دورية، بل تفرضه الظروف التاريخية والمجتمعية والاقتصادية ويتحدد أسلوبه وفق الطور الحضاري للأمة، بينما التغيير في المتحد العلمي دائم الحدوث سواءً في التراتبية العلمية لدى مؤسساته ونتاجها، أو حتى بين الأفراد والتي تتحد حسب المنجز المعرفي، وهذا ما يجعله أكثر دينامية من سواه من المجتمعات.
ثامناً: تتوضح مشاريع وأعمال المتحد العلمي حسب برامج نظام السلطة السائد في المجتمع، بينما لا يملك المتحد العلمي برامج سياسية يفرضها على السلطة السياسية إلا في حدود أولوياته البحثية أو الاقتصادية بذاتها. مثال ذلك دور مؤسسات البحث الطبي في بداية جائحة كورونا.
تاسعاً: تشكل نتاجات المتحد العلمي إرثاً معرفياً وجمالياً إنسانياً لأمة من الأمم، بينما تعجز السلطة السياسية في هذا الدور، إلا عبر نموذج سياسي يحقق المطالب الإنسانية العادلة، وهذا حدث تاريخي غير شائع.
عاشراً: يمكن أن تنحرف مقاليد السلطة السياسية عن مسارها مما بلغت من التنظيم والحقوقية بفعل عوامل ومؤثرات ذاتية وموضوعية، أي بتأثير من الأسس الحاكمة لنموذج السلطة، أو بسبب دخول السلطة السياسية في صراع مصالح مع سلطة خارجية. أما المتحد العلمي فلا يمكن أن يحضر نموذج جديد في التفسير والتنبؤ دون أن يحل مشكلات لنموذج القديم ويسمح بتنبؤات جديدة قابلة للتحقيق دون صراع مصالح واضح، فالنتائج هنا تفندها التجارب أو الفرضيات الجديدة.
خلاصة: وفق ما تقدم هنالك الكثير من الإشكاليات المعاصرة التي يتوجب فيها تحليل نموذج السلطة القائم في المجتمعات العربية، وما هي العوامل التي تنبني عليها السلطة التاريخية، والتراثية والاقتصادية والاجتماعية؟ كيف تتبنى السلطة السياسة كفكر وممارسة في ضوء المستجدات الحضارية؟ ثم ما هو الدور الموكل إلى مؤسسات البحث العلمي وكيف يمكن إشادتها بشكل معاصر؟ وأن تبدو فاعلة ومستقلة في كل مجال من العلوم، بما فيها المؤسسات البحثية الحقوقية.
لماذا هذه العقدة في التوتر بين السلطوي أو السياسي من جهة والعالم أو المثقف من جهة أخرى في البلاد العربية دون حتى الإسلامية؟ هل من جذور نفسية أو تراثية أو مجتمعية أدت إلى تهميش دور المؤسسات الفكرية والعلمية في المجتمعات العربية ؟ كيف يمكن إعادة تشييد مؤسسة الحكم والسياسة على مبادئ الحقوق والعدالة؟، كذلك مؤسسة البحث العلمي على المنهجية العلمية الصارمة وفق أحدث المستجدات على المستوى النظري والتجريبي.
Sorry Comments are closed