غزة تتعرض لأعنف حملة تدمير وإبادة على يد المحتل الإسرائيلي، منذ «استقر» وضعها على حالة كانتون معزول كثر تشبيهه، بحق، بسجن كبير يضم أكثر من مليونين من البشر. مع ذلك ينال الفلسطينيون أدنى حد من التعاطف عبر العالم في تاريخهم، مقابل تعاطف بدرجة غير مسبوقة من قبل الدول الغربية، و«تفهّم» أو تغاضي دول عرفت بقربها من الفلسطينيين أكثر في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، بما في ذلك دول عربية وتركيا التي دعا رئيسها إلى «ضبط النفس» في الوقت الذي وقفت فيه أحزاب معارضة تركية غير إسلامية إلى جانب الفلسطينيين. أما إيران، قائدة ما يسمى بمحور المقاومة، حليفة حركة حماس بالذات، فيبدو سلوكها أقرب إلى «النأي بالنفس» بالقياس إلى خطابها الفلسطيني الأشد صخباً من أصحاب القضية، ومثلها ربيبها اللبناني «الرابض على الجبهة» الذي ما زالت ساحات «الجهاد» في سوريا أهم وأكثر جاذبية بالنسبة له من القدس وفلسطين.
الانحياز الغربي لإسرائيل ليس مفاجئاً، فقد دأبت على ذلك طوال تاريخ الصراع، ولا فتور الهمة، اللفظية على كل حال، في إبداء شيء من التعاطف مع الفلسطينيين المعرضين لحرب إبادة، لدى الدول الأخرى المشار إليها، ولا «التعقل» الإيراني في الظروف القائمة. غير أن الجديد هو في الإجازة الأمريكية المفتوحة لنتنياهو ليدمر غزة ويقطع عنها الماء والكهرباء والغذاء والدواء والوقود، ويضرب معبر رفح ليحكم إغلاق سجن غزة الكبير، كي يضمن عدم نجاة فلسطيني واحد.
لم يسبق لواشنطن، بحدود علمي، أن أعطت تفويضاً مفتوحاً لحكومة إسرائيلية في الحرب ضد الفلسطينيين بدون أي استدراك. فقد كان بيان الدعم لإسرائيل يترافق دائماً مع مطالبة الطرفين بضبط النفس ودعوتهما لوقف إطلاق النار والبدء بالتفاوض. بل ذهب الرئيس الأمريكي جو بايدن بعيداً، في مؤتمره الصحافي مساء البارحة، ليشبّه هجوم مقاتلي حركة حماس على ما يسمى «غلاف غزة» بمحارق النازيين بحق اليهود إبان الحرب العالمية الثانية، وصوّر إسرائيل كضحية تعرضت لوحشية إرهابيين يكرهون اليهود، على حد زعمه، متذكراً ما قالته له غولدا مائير بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول: «ليس لدينا مكان نذهب إليه!»
وفقاً لهذه التصريحات هناك ضحية بريئة، إسرائيل أو اليهود، يريد الفلسطينيون أن يلقوا بهم في البحر! يتناسى بايدن أن الإدارات السابقة كانت وسيطاً بين الطرفين في هندسة اتفاقيات سلام من المفترض أن تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية، وعليه فقد قبل الفلسطينيون منذ التسعينيات بالتخلي عن شعاراتهم السابقة بشأن تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وانخرطوا في تسوية مرة كالعلقم بسبب إدراكهم لميزان القوى المختل في العالم لغير صالحهم. لكن إسرائيل هي التي أفرغت تلك التسوية من أي معنى، فواصلت استيطانها، وتصرفت دائماً كدولة احتلال، عاملت فيها الفلسطينيين بإذلال من منطق القوي.
لم يسبق لواشنطن، بحدود علمي، أن أعطت تفويضاً مفتوحاً لحكومة إسرائيلية في الحرب ضد الفلسطينيين بدون أي استدراك
كذلك تخلت الولايات المتحدة عن دورها كضامن لتلك التسوية وكوسيط لحل الخلافات أثناء التطبيق، بل إن القضية الفلسطينية قد غابت تماماً عن أجندة إدارة بايدن منذ توليه منصب الرئاسة، في حين تمادى سلفه ترامب واعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأطلق عملية تطبيع طموحة مع دول عربية لا حدود لها مع إسرائيل وكأن الفلسطينيين حصلوا على أقصى ما يمكنهم الحصول عليه سلماً.
هذا الوضع هو وصفة لتجدد الصراع بشكل دوري، مع دخول أطراف إقليمية لها مصلحة في استمرار الصراع بوقود هو الدم الفلسطيني، أعني إيران بصورة رئيسية، وحزبها في لبنان ونظام الأسد طبعاً. بل إن حكومات نتنياهو المتعاقبة تصرفت إزاء الفلسطينيين دائماً وكأنها تستفزهم ليعودوا إلى الصراع المسلح، ضامناً تفوقه في هذا المجال وصمت «المجتمع الدولي» على جرائمه.
من هذا المنظور، فإن العمليات التي تقوم بها المقاومة الفلسطينية هي دائماً رد فعل على الإجرام والغطرسة الإسرائيليتين، أكثر من اندراجها في خطة سياسية لتحقيق أهداف سياسية. ولا تشذ عملية «طوفان الأقصى» عن هذا الإطار على رغم الأداء المبهر لليوم الأول في اقتحام السياج الإسرائيلي والسيطرة على مواقع عسكرية ومستوطنات وقتل عدد كبير وأسر ما يفوق المئة.
هذا الأداء الذي أثار حماسة شعبية واسعة في المجتمعات العربية، هو نفسه ما صدم أقوياء العالم الذين اعتادوا النظر إلى الفلسطينيين بوصفهم الجهة الضعيفة التي قد يمكن أن يتصدقوا عليها ببعض التعاطف الكاذب والمساعدات الإنسانية. أما أن «يتطاولوا على الأسياد» فهذا ما لن يتسامحوا معه، ولن يقبلوا إلا بإعادته إلى «حجمه الطبيعي» كعبد ذليل يستنجد بالعالم ليكف عن ضربه!
ثمة شواهد كثيرة إلى برم الغرب من الغطرسة الإسرائيلية، وكره شديد لنتنياهو بالذات، لكنه يبقى في أسوأ الأحوال «الابن المشاغب» لعالم الأقوياء، لن يقبلوا بإذلاله وإذلال جيشه واستخباراته كما فعلت حماس في اليوم الأول لـ«الطوفان» قد يوبخونه ـ سراً ـ ويعملون على التخلص منه. ولكن ليس الآن، بل بعدما يقدموا له كل ما يلزم لكسر شوكة الفلسطينيين وجعلهم «يندمون» كما قال نتنياهو في الأمس.
نعم، إعلان الندامة وطلب وقف النار وحده ما قد يشفي غليل الإدارة الأمريكية قبل نتنياهو.
يشعر المرء بالحرج من انتقاد عملية حماس لأنها على الأقل أثلجت الصدور في يومها الأول، صدور شعوب اعتادت على الهزائم والإذلال من قبل إسرائيل وعصابات فساد وإجرام تحكم دولهم، وتشعر بالعجز أمام مجتمع دولي لا يبالي بهم أو يساهم بدوره في إذلالهم.
ولكننا، في الأول والآخر، نعيش في عالم السياسة، لا نستطيع التصرف وكأننا وحدنا في صحراء. ومهما امتدت الحرب على غزة، ستتوقف عند حد معين، وسيحتاج الفلسطينيون حينذاك لتعاطف دول العالم لتجديد الأمل بتحقيق شيء من حقوقهم المهدورة. بهذا الميزان يمكننا أن نرى عملية «الطوفان» على حقيقتها.
Sorry Comments are closed