المنسيون

عالية منصور6 يونيو 2023آخر تحديث :
عالية منصور
عالية منصور

تنشغل وسائل الإعلام- الصحف وشاشات التلفزيون وحتى وسائل التواصل الاجتماعي- بأخبار المشاهير والزعماء، بالكوارث واللقاءات. وتغيب عن الصفحات الأولى وعناوين النشرات أخبار الناس “العاديين” وقصصهم. هم المنسيون إلا إذا وقعت عليهم واقعة كبرى أو أراد أحد التقاط بعض الصور معهم.

بعضهم تحولت حياته إلى مأساة مستمرة، لم تعد يومياتهم بحاجة لقصف أو زلزال، فهي معاناة مستمرة، ومن يستحق لقب “المنسيون” أكثر من اللاجئين السوريين في لبنان؟

التحريض عليهم والأكاذيب والكراهية أخبار تستحق المتابعة والنشر، أما حقيقة ما يعيشون فالأمر ليس مهماً، حتى هم ملّوا من تكرار الحديث عن معاناتهم في وقت أدركوا فيه أن أحداً غير مهتم بشكل كاف ليخفف عنهم أو ليجد الحلول لمشكلاتهم.

وفي يوم من الأيام زرت مدينة عرسال وكان يصل إليها في ذلك الوقت لاجئون سوريون من القلمون ويبرود السوريتين. لا أنسى تلك السيدة الأرملة مع أطفالها، التي أخبرتني أن هذا هو النزوح الثالث لهم بعد حمص والقصير ويبرود، يومها كانت المنظمات الإنسانية تهرع لإعطاء الوافدين الجدد سلات غذائية وأغطية “حرامات”. وقفت في صالة أعراس كانت قد فُتحت لاستقبالهم، وقالت: “لا أريد المزيد من الطعام والأغطية، أريد بعض الخصوصية، أريد مكانا أستطيع أن أستحم فيه”.

قبل أيام، وفي خضم حملات التحريض على اللاجئين في لبنان، وعمليات الاعتقال والترحيل، وفي نقاش مع مجموعة من اللاجئين، قال أحد اللاجئين في عرسال: “عندما أتينا من القصير كان أطفالي صغارا، اليوم تخطوا 18 عاما ولكنهم لا يملكون أوراقا ثبوتية، لا نستطيع العودة والحصول على هويات لهم، ولا نملك مئات الدولارات لدفعها لسفارة النظام للحصول على جوازات سفر، هم اليوم بلا أوراق وبلا إقامات شرعية مع ما يعنيه ذلك من حرمانهم من الالتحاق بالجامعات والملاحقة وحتى حرمانهم من إمكانية السفر إلى بلد ثالث”.

التحريض على “العاديين” والأكاذيب والكراهية أخبار تستحق المتابعة والنشر، أما حقيقة ما يعيشون فالأمر ليس مهماً، حتى هم ملّوا من تكرار الحديث عن معاناتهم في وقت أدركوا فيه أن أحداً غير مهتم بشكل كاف ليخفف عنهم أو ليجد الحلول لمشكلاتهم

هذه المشكلات لا يعرفها إلا من يعيشها، هذه هي يومياتهم؛ والتعاطف معهم من بعد لن يحل أيا من مشكلاتهم.

اللاجئون ليسوا وحدهم “منسيين”، أهالي تلك المدن اللبنانية أيضا. إغلاق مركز غسيل الكلى في عرسال لأن العاملين فيه أطباء سوريون أمر قانوني كما يقول من أخذ قرار الاغلاق وهو محق، ولكن راح عن باله أن لا مركز آخر لمرضى الكلى في المدينة، وأن أهالي عرسال أنفسهم يستفيدون من هذا المركز أكثر من السوريين وفقا للأرقام الرسمية.
وقبل اعتداء جبهة النصرة الإرهابية على عرسال، لم يكن هناك مركز للأمن العام في المدينة، وكانت الغالبية من السوريين لا تملك إقامات شرعية بعد هروبهم في الليل تحت القصف ولجوءهم إلى تلك المدينة، وعندما سئلوا حينها: لماذا لا يذهبون إلى بعلبك لتسوية أوضاعهم والحصول على إقامات شرعية تقيهم كثيرا من المشاكل والصعوبات؟ كان الجواب أن هناك حاجزا لإحدى القوى الأمنية يعتقل من لا يملك إقامة قبل أن يصل إلى مركز الأمن العام للتقدم بطلب الحصول على إقامة.

ومن لم يعش حياتهم لا يعرف ما هي مشكلاتهم، مشكلات يومية ولكنها ليست عادية، هي قادرة على أن تشل حياة الإنسان، فكيف بحال من يعيشها منذ سنين؟

المعارضة السورية غائبة بشكل كامل عن اللاجئين وأهل الخيام، قد يزور بعض من أعضاء المعارضة بعض المخيمات في الشمال السوري لالتقاط بعض الصور لزوم “الإعلان والدعاية”، وقد يخرج ببيانات لا علاقة لها بواقع ما يعيشه السوريون في لبنان، وقد تزوره بعض المنظمات وتمنح بعض المساعدات، ولكن بعد 12 عاما على بدء أزمة اللجوء خف الاهتمام بهم، وتطبع العالم مع عدم الاكتراث لملايين الأرواح. هذه ليست كل مشكلاتهم، هذه بعض من مشكلاتهم الكثيرة التي تنتظر الحلول، وعدم إيجاد الحلول أشبه بالقتل البطيء، حياة من دون أفق، انتظار دام أكثر من 12 عاما ولا يبدو أن نهاية هذا الانتظار قريبة. أطفال صاروا شبابا، يحق لهم أن يحلموا وأن يسعوا لمستقبل أفضل، ولكن تقاعس العالم يحرمهم حتى من الحلم.

قبل اعتداء جبهة النصرة الإرهابية على عرسال، لم يكن هناك مركز للأمن العام في المدينة، وكانت الغالبية من السوريين لا تملك إقامات شرعية بعد هروبهم في الليل تحت القصف ولجوءهم إلى تلك المدينة

عرسال مدينة كريمة، وبعض المدن لها صفات البشر، مدينة محرومة ومهملة لا تهتم الدولة اللبنانية بأهلها اللبنانيين، ولكنها لم تظهر يوما إلا الكرم لكل من لجأ إليها، مثلها مثل طرابلس ومدن وقرى عكار وغيرها، هذه المدن التي تبتسم بوجه الزائر رغم كل مآسيها، لجأ اليها السوريون فتشاركوا المأساة دون ضجيج.

المصدر المجلة
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل