“يا ابنتي أعيش وحيدة بعد أن كان بيتي ممتلئاً بأولادي.. ما يُصبّرني أنَّهم شهداء بإذن الله ولم يكونوا عواينة للنظام وهذا أكبر شرف لي”.. هكذا تقول لي خنساوات الثورة السورية عندما أسألهنّ عن حالهن وكيف فقدنَ فلذات أكبادهن على يد مُجرم يعلمه العالم أجمع، لكنّه بكلّ صفاقة يُعيد تدويره كـ “مكافأة” على قتل وتعذيب وتشريد نحو نصف الشعب السوري.
تتجاوز الأمهات السوريّات عطاءاتهن وصبرهن الشاعرة تماضر بنت عمرو بن الحارث التي فقدت أربعة من أبنائها في معركة القادسية وقالت: “الحمد لله الذي شرّفني باستشهادهم”، حيث لُقبن بـ “الخنساء” نسبةً لها، فلا تكاد تجد أمّاً إلا وفقدت ولداً، أولئك الأبناء الذين كانوا شعلةً لإنارة الطريق أمام السوريين ليُبصروا نور الحقيقة بعد أن أعمى الحاكم بصيرتهم كي يستمر في حكمه المستبد المستمر منذ ستين عاماً.
من كلّ عام في الواحد والعشرين من آذار يحتفل العالم بعيد الأم، عبر حفلات وشراء الهدايا، ونرى كيف تحضر العائلة بأفرادها ليُعايدوا من تعبت لأجلهم، إلّا الأمّ السوريّة يكون هذا اليوم غصة محرقة في قلب أنهكه الحزن اللامتناهي، فنجد الكثيرات يحتفلن بهذا اليوم عبر تقليب ألبوم صور فلذات أكبادها وتستذكرن كيف استشهد فلان واعتقل آخر، وهاجر البقية.
الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها المجرم الأول حافظ الأسد بمساندة شقيقه رفعت الأسد ووزير دفاعه مصطفى طلاس وعبد الحليم خدام ومن كان معهم، بدأت منذ العام 1979 ليختمها في شباط 1982 بمجزرة (حماة) لا يمكن وصف أهوالها، حيث تدمّرت أحياء كاملة بمنازلها ومساجدها ومدارسها فوق رؤوس قاطنيها، حينها تأكد السوريون بأنّ من يلفظ حرفاً لا يوافق أهواء السلطة المستبدة فمصيره القتل الفوري أو البطيء في غياهب السجون، هذه الجرائم ندباتها مستمرة وتوسّعت بعد انطلاق الثورة السورية التي كسرت حاجز الخوف.
إلى اليوم ما تزال هناك أمهات لا يعرفن مصير أبنائهن من تلك المجازر وما تلاها من اعتقالات تعسفية، بالمقابل تبيع الأم كلّ ما تملك لتعطيه لأم ضابط علوي كي تأمر ابنها ليسمح لها بزيارة ابنها في السجن، وتصبح أم الضابط مع مرور الوقت من الثريات، مثلما فعلت والدة فيصل غانم مدير سجن تدمر سيئ الصيت، حيث تذهب أم المعتقل لعندها تأخذ هدية ذهب وهي تعطيها ورقة صغيرة مكتوب عليها “إلى ابني العزيز أعطي زيارة لفلان” بخطٍ بالكاد يُقرأ.
قابلتُ العديد من أمهات الشهداء والمعتقلين، كان أكثر ما يؤلمني رواية مناماتهن لي، إذ تقول أم ستة شهداء من دير الزور: عندما أرى أولادي في المنام يكونون لابسين اللون الأبيض، فيما تتحدث أخرى عن كيفية استيقاظها فزعة تظنّ أنّ ابنها يطرق الباب قادماً بعد غياب 12 عاماً لكنّها تصطدم بالواقع ولا تجده، ما أصابها من مرض نفسي كان له مضاعفات شديدة وتسبب بأمراض جسدية، فلا تكاد تنتهي من طبيب حتى تذهب لآخر، فحياتها منذ اعتقال ابنها في حمص ما بين طبيب ومستشفى.
فيما تتكلم أمٌّ أخرى مع ابنها في المنام وكأنَّه واقع، وفي أحد المنامات طلب منها ذبح أضحية باسمه، فنفذت وصيته وكلُّها أمل أن يصل خبر عنه ليطمئن قلبها المنكسر شوقاً له وألماً على عدم معرفة مصيره. كذلك تحاول أمّ حمصية في كلّ فترة إخراج قيد نفوس فتجد ابنها على قيد الحياة، ورغم أنّها طريقة غير ناجعة لكنّها تشعر بالاطمئنان بأنَّه سيرجع يوماً.
حدثتني أكثر من أمّ عن تجهيز منزل ابنها لقرب زفافه، وتعدّد لي: اشتريتُ له جميع أنواع الأواني، اخترت أحسن المفروشات، كلّ شيء فعلته تم نسفه بسرعة، فذهب المنزل بالهدم أو السرقة وذهب العريس للقبر أو السجن، وذهبت العروس لعريس آخر.. المدهش أنّها تتحدث وهي تبتسم، ولا أجد ما أواسيها به، على العكس أمهات الشهداء والمعتقلين يمددنَني بالأمل وهنّ من يواسينني بالفعل، فهنَّ نبع العطاء، يروين قصصهنّ بروح النكتة تخفيفاً للألم.
عندما كانت المظاهرات في أوجها لم ينسَ الأحرار لعن والدة بشار، أنيسة، بقولهم: “يلعن أنيسة على هالخلفة الخسيسة”، ولم ينسوا لعن روح ناعسة والدة حافظ، ومن بعدهما أسماء الأخرس أم حافظ جونيور.. وأمّ كلّ قاتل سار على درب الإجرام.
أعتقد أنَّ حملات المطالبة بالمعتقلين ما تزال ضعيفة، ملف المعتقلين فوق تفاوضي يجب حلّه قبل إجراء أيّ مفاوضات للحلّ السياسي، للأسف منذ مفاوضات جنيف 1 إلى أستانا 19 وتوقف اللجنة الدستورية عند الجولة التاسعة، لم يفرج النظام عن معتقلي الرأي (الثورة) بل لا يكاد يذكر هذا الملف في تلك الاجتماعات، سوى بهامش، لحفظ ماء وجه معارضة ينبذها الشعب كونها لا تمثل ولا تحقق مطالبه.
وعندما أصدر بشار الأسد قانون العفو رقم 7 في 30 نيسان 2022، وهو المرسوم الـ23 الذي يمنح عفواً عاماً منذ عام 2011، من دون أن يتم فعلياً الإفراج سوى عن عدد ضئيل من المعتقلين، تفتحت جروح الأمهات والزوجات، فالكثيرات منهنّ أصبن بأمراض نتيجة انتظارهن مصير أبنائِهن بعد هذا القرار، وهذا ما وثقته عدسة إعلام النظام عندما قالت امرأة “لا نريد سوى معرفة مصيره حيّ أم ميّت”.
ورغم كثرة المنظمات الإنسانية وتركيزهم على الأمهات والأيتام، إلا أنّ هناك كثيرات لا يجدن من يطرق بابهن بكسرة خبز ويعشن وحيدات بعد فقدان الأولاد وزواج البنات.
الأمّ السوريّة أخذت دور الأب في كثير من الحالات، وأثبتت تربيتها الفاضلة نشوء جيل جديد تربّى على الكرامة والحرية، فتجد الطفل يقول: “الثورة كلّ حياتي”، تستحق هذه الأمّ أسمى عبارات التهنئة في يوم عيدها.
عذراً التعليقات مغلقة