أثبتت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية للعالم ضمن تقريرها الأخير “حقيقة” عرفها السوريون وعاشها بالتحديد سكان مدينة دوما بريف دمشق، وحتى أن تفاصيلها لم تغب عن أنفاسهم، وفي الوقت الذي أكدت فيه هذه الجهة الدولية استخدام نظام الأسد لغاز الكلور السام في تلك البقعة السكنية عام 2018، وضعت الأمر بعهدة المجتمع الدولي “لاتخاذ إجراءات داخل المنظمة وخارجها”.
وعلى مدى الأيام الماضية أثار التقرير الذي “طال انتظاره” الكثير من ردود الفعل الدولية، إذ عبّر وزراء خارجية الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا عن “إدانتهم الشديدة” لاستخدام النظام السوري أسلحة كيماوية، مؤكدين التزامهم بمحاسبة مرتكبي هذه الهجمات في سوريا وخارجها، على عكس روسيا حليفة الأسد، التي قالت خارجيتها إن “التقرير يحمل الطابع المفبرك”.
في المقابل وسورياً، وفي حين اعتبر حقوقيون أن ما أثبتته المنظمة الدولية “إدانة قوية للنظام السوري المتوحش” وأنه “وثيقة تاريخية” تعزز طريق المحاسبة الطويل، سرعان ما اتجه الأخير لتصدير روايته الرسمية، على لسان مسؤوليه ومن خلال وسائل إعلامه، معتبرا أن “فريق التحقيق وتحديد الهوية” التابع للمنظمة “أنشئ بناء على ضغوط مارستها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا لغايات خاصة”.
وكان التقرير الذي أصدرته المنظمة قبل أيام قد سبقه تقريران واعتمد على منهجية صارمة ومركّبة وضعت فرضيات متعددة واستندت إلى عدد كبير من الأدلة، وإمكانات مخبرية لا تملكها إلا قلة من الدول.
وعمل “فريق التحقيق وتحديد الهوية” (IIT) التابع لـ”حظر الكيماوي” على تحليل 19 ألف ملف و1.86 تيرابايت، وإجراء مقابلات مع 66 شاهدا وتحليل 70 عينة، وخلص إلى أن طائرة مروحية واحدة على الأقل من طراز Mi-8/17 تابعة لـ”سلاح الجو العربي السوري” وتحت سيطرة “قوات النمر” أقلعت من قاعدة الضمير الجوية، وأسقطت أسطوانتين صفراء تحويان غاز الكلور السام في 7 أبريل 2018.
وجاء في التقرير أن “الأسطوانات أصابت مبنيين سكنيين في وسط دوما، إذ تمزقت الأولى وسرعان ما أطلق غاز الكلور السام بتركيزات عالية جدا، وتناثر بسرعة داخل المبنى، مما أسفر عن مقتل 43 فردا محددين وإصابة العشرات”. وبعد ذلك تحطمت الأسطوانة الثانية في شقة، وأطلقت ببطء بعض الكلور “مما أثر بشكل طفيف على أولئك الذين وصلوا أولا إلى مكان الحادث”.
وأشار التقرير بوضوح لدور روسيا في العمليات العسكرية بوجود “قوات النمر” التي تدعمها في مطار الضمير العسكري، ومشاركة طائراتها الأجواء السورية فوق دوما في أثناء تنفيذ الهجوم، إضافة إلى دعمها نظام الأسد على مختلف الأصعدة السياسية والدبلوماسية والإعلامية في محاولة لطمس معالم الجريمة.
ماذا يعني الإثبات؟
وهذه ليست أولى الجرائم التي يثبت ضلوع نظام الأسد فيها، بل سبقتها الكثير، وبينما أسفرت هذه الإثباتات عن إدانات دولية واسعة وعززت من جانب آخر مسار المحاسبة والعدالة ومسارات الحل السياسي الأخرى، إلا أنها لم تفض عن واقع جديد، ما جعل سوريين، وخاصة من ذوي الضحايا يعيشون “حالة خذلان”.
ولطالما قللت هذه الحالة من أثر أي انتهاك يكشف عنه ويتم إثبات ضلوع النظام السوري فيه، سواء على المستوى السياسي أو القضائي، في مسار يخالف وجهة النظر الخاصة بحقوقيين، وخاصة ممن عملوا خلال السنوات الماضية على إيصال شهود العيان ومن عاصروا الجريمة وعينات مسرحها إلى الجهات الدولية صاحبة القرار.
يُعتبر “مركز توثيق الانتهاكات الكيميائية في سوريا” أحد الشركاء الرسميين لفريق التحقيق وتحديد الهوية التابع لمنظمة “حظر الأسلحة الكيماوية”، وكذلك الأمر بالنسبة لـ”الدفاع المدني السوري” و”الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.
ويعتبر مدير المركز التوثيقي، نضال شيخاني أن التقرير الأخير لـ”حظر الأسلحة الكيماوية” هو “مرجعية قانونية للآلية الدولية المحايدة المستقلة والخاصة بسوريا”.
وهذه الآلية عبارة عن كيان تم تشكيله في 2016 بموجب قرار من الجمعية العمومية للأمم المتحدة لملاحقة مجرمي الحرب في سوريا، والأشخاص المتورطين في الجرائم الأكثر خطورة.
يقول شيخاني لموقع “الحرة”: “الآلية مهمتمها تجميع الملفات وترتيبها حسب المعايير الدولية، قبل أن تقدمها لمدعين عامين”، وإن تقرير إثبات ضلوع نظام الأسد في هجوم دوما الكيماوي “يعد مرجعية قانونية لمحاسبة المتورطين مستقبلا”.
علاوة على ذلك، يضيف شيخاني أن “إثبات استخدام الكيماوي في دوما بلسان فريق تحديد الهوية وهو تابع لمنظمة حظر الأسلحة يطرح تساؤلات كثيرة على طاولة الدول الأطراف، منها ما يتعلق بأن النظام السوري لايزال يمتلك مخزونا كيماويا”.
كما أن تقرير “حظر الكيماوي” سيحرّك ما يسمى بـ”فريق التقيم والنشر” التابع للمنظمة، لمطالبة النظام السوري بالإعلان عن المنشآت والأدوات والمعدات التي تم استخدامها في الهجمات الكيماوية، وفق شيخاني.
وفي شهر مارس 2019 كانت بعثة تقصي الحقائق التابعة لمنظمة “حظر الأسلحة الكيماوية” قد أصدرت تقريرا، أكدت فيه استخدام مادة “الكلور الجزيئي” خلال هجوم على مدينة دوما، بحسب العينات الطبية والبيئية التي حصلت عليها البعثة خلال تفتيشها للمنطقة المستهدفة، دون تحديد الطرف المسؤول عن الهجوم.
وأشار التقرير، حينها، إلى أن اسطوانتي الغاز اللتين عُثر عليهما في مكان الهجوم ألقيتا على الأرجح من الجو.
بعد ذلك في يوليو 2021 كشفت المنظمة الدولية أن النظام السوري دمر اثنتين من أسطوانات الغاز السام، التي استخدمت في أثناء الهجوم الكيماوي على دوما، في تقرير ثانٍ.
وجاء في التقرير، أن النظام نقل اسطوانتي الغاز اللتين وجدتا في موقع المجزرة، على الرغم من تحذير منظمة حظر الأسلحة بالمساس أو فتح أو نقل أو تغيير الحاويات أو محتوياتها أو نقلها خارج أراضيها، بأي شكل من الأشكال دون الحصول على موافقة خطية مسبقة من الأمانة العامة للمنظمة.
وادعى النظام أن الاسطوانتين دُمرتا، إثر غارة جوية إسرائيلية على نفق كان مغلقا تحت الأرض سابقا في منشأة يشتبه أنها تحوي أسلحة كيماوية على بعد حوالي 60 كيلومترا من المكان الذي فحصت فيه الأدلة، في 8 يونيو 2021.
وبحسب التقرير الثاني، لم تُخطر حكومة النظام السوري الأمانة العامة للمنظمة، بنقل الأسطوانات إلى موقع جديد حتى أبلغت عن تدميرها.
“الروس باتجاهين”
ومنذ تنفيذ الهجوم الكيماوي المثبت على دوما، قبل خمس سنوات، حاولت روسيا حليفة النظام السوري حرف رواية الشهود الذين نقلوا العينات والأدلة في قوافل التهجير، إلى أن تم تقديمها إلى منظمة “حظر الكيماوي”.
وبينما نقلت “شهود زور” من دوما إلى لاهاي، ومن ثم عرضت إفاداتهم في مؤتمر صحفي، في العام 2018 أعاد النظام السوري هذه الخطوات في الوقت الحالي، عبر تغطية إعلامية أفردتها وسائل إعلامه يوم الخميس.
ويقول الطبيب السوري محمد كتوب، الذي شهد هجمات الكيماوي في غوطة دمشق الشرقية، إن “هجوم دوما ليس أول جريمة يأتي النظام السوري بشهود زور لدحضها. هو دائما يعتمد هذا الأسلوب”.
ويضيف لموقع “الحرة”: “لكن هذه المرة يبدو هناك قيادة روسية للموضوع. كثير من الشهود الذين تعرضوا للترهيب كان لديهم معلومات أن الضغط يأتي من قبل أبناء مدينة دوما، المتعاملين بدورهم مع الجنرال ألكسندر زورين بشكل مباشر”.
وزورين ضابط روسي كان قد قاد مفاوضات مدن وبلدات الغوطة الشرقية، وصولا إلى نقطة تهجير آلاف السكان إلى شمال سوريا، ومن ثم إعادة السيطرة الأمنية والعسكرية للنظام السوري.
ويوضح كتوب: “القيادة الروسية لحادثة دوما جعلت الترهيب واستخدام الشهود للتلاعب بالحقائق ممنهجة على نحو أكبر، ووصلت إلى عملية نقل الشهود لتقديم شهاداتهم في مقر البعثة الروسية في منظمة حظر الأسلحة الكيماوية”.
ويشير إلى ذلك مدير “الدفاع المدني السوري”، رائد الصالح والذي كان لأعضاء فريقه الإنساني الدور الأبرز في نقل الأدلة والعينات إلى منظمة حظر “الأسلحة الكيميائية”، إذ يقول إن “الروس يحاولون التضليل دائما، وسبق وأن استخدموا ذات الروايات في الهجوم الكيماوي بخان شيخون بريف إدلب وفي اللطامنة وسراقب”.
ويضيف الصالح لموقع “الحرة”: “في 2018 شكّلت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية فريق التحقيق وتحديد الهوية، وسرعان ما اتجه الروس بعد ذلك لمحاولة اختراق المنظمة وإجبار الشهود على إطلاق تصريحات معينة”.
ولا يرى الصالح أن تقرير هجوم دوما الكيماوي وإثبات ضلوع نظام الأسد “ذو مسار سياسي”، حيث أنه “قانوني حقوقي بحث، وهو خطوة في طريق العدالة والمحاسبة”.
ويوضح: “التقرير صدر في التوقيت الذي انتهى العمل فيه. كان هناك تحليلات وتحقيقات ولقاءات وشهود. المحققون حللوا 19 ألف ملف، في وقت كان يحاول فيه الروس التضليل واللعب بالوقت ومنع وصول الفرق إلى أماكن الاستهداف”.
ماذا بعد الإثبات؟
ومنذ بداية أحداث الثورة السورية وتحوّل الحراك السلمي إلى مسلح انضمت مدينة دوما إلى قائمة المناطق التي حملت قدرا أكبر من الرمزية، كونها كبرى مدن الغوطة الشرقية بريف دمشق التي بقيت خارج سيطرة النظام السوري لسنوات، إلى أن تمكن من دخولها بعد العام 2018. أي في أعقاب تنفيذ الهجوم الكيماوي المثبت.
وتعرضت دوما لهجومين كيماويين من قبل قوات النظام السوري، الأول عام 2013، حيث أجبر المجتمع الدولي النظام حينها على تسليم مخزونه الكيماوي والانضمام إلى معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية، وسط تشكيك دولي بالتزام النظام بالمعاهدة، وهو ما أثبته الهجوم الثاني قبل خمس سنوات، إذ كشف أن النظام لم يلتزم بما وقّع عليه.
عقب الحملة العسكرية العنيفة على الغوطة الشرقية عام 2018، شهدت دوما تهجيرا قسريا لأهلها، بموجب اتفاق تم التوصل إليه بين الجانب الروسي وفصائل المعارضة، يقضي بتسليم المدينة لقوات الأسد مقابل السماح للمقاتلين وذويهم والمدنيين الراغبين بالخروج إلى الشمال السوري.
وكان رأس النظام السوري، بشار الأسد قد أجرى زيارة إلى المدينة في اليوم الأول لتنظيم “الانتخابات الرئاسية”، في شهر يونيو 2021، حيث أدلى بصوته فيها ووجه منها تصريحات، هاجم من خلالها الدول الغربية، واعتبر أن “قيمة آرائها صفر”.
ويرى فضل عبد الغني مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” أن التقرير الذي أثبت ضلوع الأسد بهجوم دوما الكيماوي 2018 يتميز عن سابقاته بأنه “احتوى توسع وإشارة للدور الروسي، من خلال ذكر قوات النمر”.
كما تميّز من زاوية رسم السيناريوهات، والافتراضات التي وضعها ومن ثم نقضها، وخاصة تلك الخاصة برواية النظام السوري.
ويقول عبد الغني لموقع “الحرة”: “منهجية التقرير قد تكون الأعلى والأدق بقليل عن التقارير السابقة أيضا”، مشيرا إلى “أهمية شديدة للغاية وتتعلق به، من زاوية أنه يثبت ضلوع النظام باستخدام الكيماوي في أبريل 2018 أي بعد 5 سنوات من انضمامه لمعاهدة حظر الأسلحة الكيماوية”.
“التقرير أثبت مسؤولية النظام القاطعة عن استخدام الأسلحة الكيماوية، وقد صدر من جهة دولية مخولة بهذا الدور، ولا يمكن التشكيك بنتائجها وصحتها”. ويوضح الحقوقي السوري: “من هذه النقطة تنبع أهميته وقوته”.
من جانب آخر ترتبط أهمية التقرير الحديث بأنه أعاد سوريا إلى الواجهة مجددا، ولاسيما أن الكثير من أسر الضحايا ينتظرون “العدالة والمحاسبة”، فيما يأتي بالتزامن مع محاولات دول لإعادة علاقاتها مع النظام السوري.
ويتابع عبد الغني: “التقرير وإثبات ضلوع الأسد بالهجمات الكيماوية سيعقد هذه المسارات ويصعبها. مهما كان شكل الدول ليس من السهل أن تعيد علاقاتها مع النظام في ظل التقرير الصادر بحقه من قبل جهة دولية”.
بدوره يعتبر نضال شيخاني أن التحقيق الخاص بدوما “لفت الكثير من أنظار المجتمع الدولي، وخاصة الدول التي تسعى للتطبيع مع النظام السوري، وتحاول فتح خطوط تقارب”.
ويقول شيخاني: “التقرير أغلق هذه الطرق، ووضّح للدول التي تفكّر بالتطبيع أن الأسد مجرم حرب ولا يمكن التعامل معه سياسيا”.
وعقد اجتماع في منظمة “حظر الأسلحة الكيماوية”، يوم الأربعاء، من أجل مناقشة التقرير الأخير، ومن المقرر أن يعقد اجتماع آخر يوم الخميس لذات الغرض، إذ يشير شيخاني إلى أن “الدول الأطراف في المنظمة باتت مسؤولة الآن عن وضع مقترح يضمن إخلاء أسلحة الدمار الشامل في سوريا ومحاسبة المتورطين”.
“في حال لم يتخذ أي قرار فسيمح لأي دولة في العالم استخدام السلاح الكيماوي. المنظمة فيها 193 دولة طرف انضمت للاتفاقية على أساس منع نقل أو تصنيع أو استخدام أو ابتكار الكيماوي دون التصريح عن ذلك”.
ويعقتد شيخاني وهو مدير “مركز توثيق الانتهاكات الكيميائية في سوريا” أن الاجتماع المقبل أو السنوي للدول الأطراف في “حظر الكيماوي” سيشهد وضع مقترح جديد للضغط على النظام السوري، من أجل تسليم الأسلحة والإعلان عن المنشآت المخفية.
من جهته يرى الطبيب السوري، محمد كتّوب أن “هناك ما يكفي من التقارير لبناء تحرك في مسارات المساءلة، لكن حتى الآن لا نرى سوى تحقيقات، وسوى الجهود من قبل المنظمات الحقوقية من خلال رفع دعاوى في القضاء الأوروبي”.
ويقول الطبيب: “لا يوجد تحرك تجاه المساءلة، ولا أعتقد سنشهد تحرك دولي ما لم يكن هناك رغبة سياسية. يوجد كل الأدوات لهذا التحرك من تقارير إدانة وتحقيقات وقرارات مجلس أمن، لكن لا يوجد رغبة سياسية في بذل جهود أكثر”.
ومع ذلك يشير كتّوب إلى أن التقرير الأخير الخاص بهجوم دوما 2018 وبالذات له أهمية كبيرة لعدة أسباب، أهمها “هو إحباط جهود البروباغندا وترهيب الشهود التي يبذلها النظام وحلفائه الروس، والإصرار على إظهار الحقيقة، رغم كل التلاعب الذي قاموا به”.
عذراً التعليقات مغلقة