هاني شاكر يليق بسوريا الأسد

عمر قدور21 سبتمبر 2022Last Update :
هاني شاكر يليق بسوريا الأسد

تغلَّبَ الاهتمام الإعلامي المحلي بزيارة هاني شاكر سوريا على أخبار يُفترض أن يكون لها حيز مماثل، أو يفوقه من الاهتمام. مثلاً، غابت أخبار انتخابات الإدارة المحلية عن الحفاوة المبالغ فيها التي يُظهرها إعلام بالأسد بما يصفه تقليدياً بأعراس الديموقراطية، وغابت عن صدارة الإعلام نفسه أخبار زيارة رئيس المخابرات التركية الذي عقد جولة جديدة من المفاوضات مع نظيره علي مملوك، في دمشق هذه المرة، ما يمكن استغلاله وتأويله “جرياً على العادة” كتنازل تركي أمام الأسد “الصامد” الذي يأتي الآخرون إليه.

الضجة سبقت وصول هاني شاكر، حين تواردت الصور عن ازدحام من أجل الحصول على بطاقة لحضور حفلة له، وما قيل عن اقتحام الجمهور الصالة لشراء التذاكر، بما يوحي أن كل شيء على ما يرام، وبأن السوريين قادرون على شراء بطاقات لحفلات فنية. وهذا تأويل حسن الظن بالمنظومة الأسدية، إذ يوحي بأنها حريصة على إنكار اقتصادها المنهار وتجميل صورة الأوضاع المعيشية للواقعين تحت سيطرتها. أما ما نراه أقرب إلى الصواب فهو عدم اكتراثها بترويج سمعة حسنة، والضجة آتية من أولئك القادرين على الدفع، والممسكين بالإعلام، والذين لديهم قدرة على شحن موبايلاتهم في بلد لا كهرباء فيه للعموم سوى لدقائق.

لا نعرف زيارة أخرى لهاني شاكر صارت حدثاً ذا شأن كزيارته الأخيرة لسوريا، وهذا ليس فيه من حسن الحظ بقدر ما فيه من حاجة سلطة مفلسة تريد الإيحاء بأنها تستضيف نجماً استثنائياً، نجماً من بقايا “الزمن الجميل”. لا نستبعد أيضاً تلك الحفاوة العفوية الآتية من أولئك القادرين على الدفع، وهم بنسبة ساحقة ممّن أثروا في السنوات الأخيرة، وثراؤهم غير بعيد إطلاقاً عن تشكيلات الشبيحة بالمستوى العسكري المباشر، أو بما هو لصيق به. ومصدر حفاوتهم ليس إعجاباً خاصاً بهاني شاكر، بل هو فرحهم بتوفر فرصة للترويح عن النفس والتمتع بإنفاق المال، ولا بأس في أن يكون الضيف “نجماً” ولو لم يكن مناسباً لجيلهم، أو لذائقتهم إن وجدت.

ومع تحاشي الربط التلقائي بين السياسة والفن، كسبب ونتيجة بالمعنى المباشر، لا نستطيع إلا أن نرى دلالة الصورة التي انتشرت على نطاق واسع لهاني شاكر رفقة المغني السوري محسن غازي نقيب الفنانين، مع التذكير بأن شاكر كان إلى وقت قريب جداً نقيباً للموسيقيين في مصر. وقد لا يستطيع البعض منا مقاومة إغراء استبدال النقيبين الموجودين في الصورة لنضع مكانهما الأسد والسيسي، وعلى الانسجام نفسه الذي ظهر به شاكر متأبطاً ذراع مضيفه.

من أسباب الإغراء السابق أننا في الصورة المفترضة نكون إزاء اجتماع مآل الناصرية مع مآل البعث السوري، وهي نهاية يمكن رؤيتها في الصورة الأصل التي تجمع بين شاكر وغازي. يفاقم من ذلك ما نُقل عن شاكر من اطمئنانه إلى أن الفن الراقي بخير، بدلالة حرص السوريين على سماع الفن الأصيل، ويقصد بالأخير ما قدّمه مؤخراً في دمشق، ومن ذلك أغنية بعنوان: عاشت سوريا.. تحيا مصر!

قبل عقود، مع انطلاقته الغنائية، اعتبر البعض هاني شاكر استمراراً لتجربة عبدالحليم حافظ، وكما نعلم كان صعود الأخير قد ارتبط بصعود مشروع الناصرية. وبصرف النظر عما قد يُوجَّه من نقد للناصرية، أو لتجربة عبدالحليم، لا يمكن إنكار وجود مشروع سياسي في الأولى وفني في الثانية، والتزامن بينهما لا يُعزى إلى المصادفة. بالطبع، الحديث هنا عن مشروع سياسي مقترن بانقلاب ونظام غير ديموقراطي مبني عليه، وهذا مختلف عن سلطات منتخبة قد لا تملك مشروعاً في بلدان ديموقراطية صارت فيها السياسة أقرب إلى مفهوم الإدارة.

اعتبار هاني شاكر استمراراً لمشروع عبدالحليم هو صيغة ملطَّفة عن عدم امتلاكه مشروعاً أو بصمة شخصيين، والاستمرار اقتضى المضي بمشروع سلفه إلى المدى الأقصى الذي لامس ابتذال ذلك النمط العاطفي. إنه، بتعبير مجازي وغير مجازي، النزول من “جبّار” لعبدالحليم بمبالغاته المقبولة إلى “عيد ميلاد جرحي أنا” لهاني شاكر. في الخلفية، أو في المقدمة، من ذلك الانتقال كانت التجربة الناصرية تؤول من المؤسس إلى السيسي، مروراً بابنها الضال أنور السادات الذي أجهز على إطارها الأيديولوجي المعادي للغرب ولإسرائيل.

بتعبير آخر، فقدت الناصرية مشروعها، وكان من المحتم فقدانه، ليبقى الاستبداد عارياً، وهذا ما تجلى واضحاً مع الحكم الطويل لمبارك، وما رافقه من فساد واشتغالٍ همه الاحتفاظ بالسلطة وتوريثها. حصل في سوريا شيء مشابه، بانقلاب حافظ الأسد على رفاقه البعثيين حقاً، أي أصحاب المشروع، ليستهلّ عهداً جديداً متخففاً من الأيديولوجيا، وصولاً إلى منتصف الثمانينات حيث ظهر فجور السلطة التي لا هدف لها سوى الاستمرار والتوريث.

المسألة ليست فردية أو شخصية، وإن كنا نرى تجلياتها على هذا النحو، والمضي من تهافت إلى تهافت أشَدّ، ومن ركاكة إلى أخرى أكثر إثارة للسخرية، هذا المضي يبدو في صميم السلطات المعنية. من المضلل هنا الترحّم على السلَف، وكأن الخلف بمحض المصادفة أتى ركيكاً، وكأن مسيرة الأسدية كان يمكن، بـ”زعامة” غير الموجودة فعلاً، أن تنتهي بسوى محسن غازي واجهةً فنيةً لها، أو أن ينتهي بها الحال كله على غير ما انفضح في العقد الأخير. وبالمثل، يبدو شبه محتم أن تنتهي الناصرية بالسيسي، فيكون الأخير أميناً لمسيرتها على النحو الذي مضى به هاني شاكر بأغنية عبدالحليم.

من شبه المؤكد أن هاني شاكر، فضلاً عن قناعته الشخصية، زار دمشق كناية عن تلك الصورة التي افترضنا أنها تجمع بين السيسي والأسد، وهذا من أسباب الحفاوة الشديدة التي لقيها، مع التذكير بأن ما حال دون لقاء المذكورَيْن هي الضغوط الأمريكية على الأول منهما. لعل أبلغ مثلٍ على مسيرة عقود أن تنتهي المأساة إلى مهزلة، وأن تصبح المأساة بممثليها مادة للتندر؛ من هذه الناحية أيضاً تقدّم أغاني هاني شاكر، باستثناءات قليلة جداً، نموذجاً طريفاً، فهي بدل إثارة التعاطف العميق مع المعاناة العاطفية والتفجّع المبالغ فيه تثير الضحك والسخرية، وتصبح مادة للنكتة!

بالعودة إلى الأنظمة الانقلابية وطبائعها وأطوارها، كان القذّافي هو الأكثر تكثيفاً، وجمع في شخصه منذ البداية المؤسِّس والمآل معاً، فأعفانا من مسيرة بطيئة لتقلّب الأطوار.

Source المدن
Comments

Sorry Comments are closed

    عاجل