مما يتصل بمسألة التقويم الأخلاقي للفعل السياسي التي ناقشتُها في المقالات السابقة، قوله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) [هود: 113]، وهي آية تحتاج إلى وقفة نقدية لأنها استُثمرت كثيرا في الصراعات السياسية الدائرة خلال ثورات ما سُمي “الربيع العربي” وتوابعها، ولأن ظاهر الآية قد يبدو دليلًا على منع أدنى ميل، الأمر الذي ينسحب على كل أشكال المخالطة للأنظمة السياسية القائمة اليوم، والمتورطة في أنواع من الظلم؛ نتيجة منطق الدولة والأنظمة السلطوية القائمة، ومن ثم فإن الاختلاف بينها هو اختلاف في الدرجة فقط.
وإذا كانت المسألة اليوم هي الاختيار بين الظالم والأظلم، فإن السؤال حول معايير الاختيار قد يضعنا أمام أشكال من الازدواجية في الممارسة. فقد يقال مثلًا بالعودة إلى المثال الذي جعلناه موضوعًا لهذه السلسلة: لماذا يتم الاعتراض على قرار حركة حماس التقارب مع النظام السوري دون التعامل مع النظام المصري مثلاً؟ وإذا كانت الآية تتناول “أدنى ميل” إلى الظالم، فإن هذا سيقود إلى إعلان الخصام مع جميع الأنظمة السياسية اليوم، ومن ثم القطيعة مع العالم واعتزال المقاومة والسياسة معًا؛ لتعذر إيجاد الحلفاء الأنقياء ممن لم يتورط بنوع من أنواع الظلم.
جرى عدد من اللغويين على تفسير الركون بالميل والسكون والاطمئنان إلى الشيء، منهم أبو نصر الجوهري وابن سِيْده الأندلسي، بل إن الميل والسكون أو الاطمئنان هو المعنى الأول الذي تورده عامة كتب المعاجم لمفردة الركون، وقد أفادنا معجم الدوحة التاريخي للغة العربية بأن “ركن” إلى الأمر بمعنى سكن واطمأن إليه، يرجع إلى نحو سنة 33 قبل الهجرة.
وقد فهم أبو القاسم الزمخشري المعتزلي الحنفي (538هـ) أن الركون هنا معناه “الميل اليسير” لمن وُجد منهم الظلم، ولهذا جاء التعبير بـ”الذين ظلموا” وليس “الظالمين”، وهذا يعني أن النهي في الآية المفتَتَح بها يتناول الانحطاط في هوى الذين ظلموا، “والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم، وزيارتهم ومداهنتهم والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم والتزيي بزيّهم، ومد العين إلى زهرتهم، وذِكرهم بما فيه تعظيم لهم”. وقد تابع الزمخشريَّ على هذا المعنى غيرُ واحد من المفسرين كناصر الدين البيضاوي الشافعي (685هـ) وشمس الدين الخطيب الشربيني (977هـ) وأبي السعود العمادي (982هـ)، وعددٌ من المُحدَثين كشهاب الدين محمود الآلوسي (1854م) ووهبة الزحيلي (2015م) ومحمد علي الصابوني (2021م).
وقد تكَلَّف رشيد رضا (1935م) فأطال النفَس في الرد على الزمخشري وعاب على من تبعه هذا التفسيرَ، بل إنه لم يرفض “الميل اليسير” فقط، وإنما رفض تفسير الركون بالميل هنا؛ استنادًا إلى أن الركون معناه الاعتماد على الشيء والجانب القوي من الشيء والسند، ومن ثم فسر الآية هكذا: “ولا تستندوا إلى الذين ظلموا من قومكم المشركين ولا من غيرهم، فتجعلوهم ركنًا لكم تعتمدون عليهم فتُقرّونهم على ظلمهم، وتوالونهم في سياستكم الحربية أو أعمالكم المِلّية؛ فإن الظالمين بعضهم أولياء بعض”.
وإذا كنت لا أوافق الزمخشري -ومن تبعه- على تفسير الركون بأدنى ميل أو بمجرد الميل ولو يسيرًا، فإن هذا لا ينفي أن الركون هنا معناه الميل والاطمئنان، وهو المقصود من اللجوء إلى “ركن شديد” في آية أخرى، لأن الغرض طلب الطمأنينة في مكان تسكن إليه النفس، خصوصًا أن التفسيرات المبكرة السابقة على الزمخشري قد فسرت الركون بالميل والسكون، كما نجد في ما روي عن عبد الله بن عباس (68هـ)، وهو تفسير مقاتل بن سليمان (15هـ)، ومحمد بن إسماعيل البخاري (256هـ) في صحيحه، وجرى عليه ابن جرير الطبري (310هـ) وعدد من المفسرين اللاحقين.
وقد جرى عدد من اللغويين على تفسير الركون بالميل والسكون والاطمئنان إلى الشيء، منهم أبو نصر الجوهري (393هـ) وابن سِيْده الأندلسي (458هـ) وأبو عبد الله الرازي (666هـ) وابن منظور (711هـ) والفِيْرُوز آبادي (816 أو 817هـ)، وغيرهم. بل إن الميل والسكون أو الاطمئنان هو المعنى الأول الذي تورده عامة كتب المعاجم لمفردة الركون، وكان الخليل بن أحمد الفراهيدي (170هـ) سبّاقًا إلى هذا، وقد أفادنا معجم الدوحة التاريخي للغة العربية بأن “ركن” إلى الأمر بمعنى سكن واطمأن إليه، يرجع إلى نحو سنة 33 قبل الهجرة.
وبهذا تعلم مبالغة رشيد رضا حين رأى أن تفسير الركون بمعنى الميل والسكون هو تفسيرٌ لبعضهم وأنه من باب التساهل! وقد تكلف رشيد رضا من أجل إخراج لفظ الركون من الميل والاطمئنان إلى الاعتماد وراح يخطّئ كبار المفسرين في ذلك ليقول: إن المعاني الأربعة للفظ الركون وهي: “الميل والسكون والاطمئنان والاعتماد؛ من لوازم معنى الركون ولا تحيط بحقيقته، وأقواها آخرها”، أي الاعتماد الذي هو المعنى الحقيقي للركون بحسبه؛ فتفسير الركون بمعنى الميل وتفسير الظلم بالظلم المطلق فيه “تشديد لا ترضاه الآية”، على حد تعبيره.
نعم إذا عدنا إلى ابن فارس اللغوي (395هـ) وجدناه يقرر أن “ركن” ترجع إلى أصل واحد يدل على قوة؛ فركن الشيء: جانبه الأقوى، ولكن المهم هنا أن ابن فارس نفسه جعل قول العرب: ركنت إلى الشيء بمعنى مِلت إليه لا يخرج عن هذا الباب أو الأصل اللغوي الذي هو القوة، لأن السكون إلى الشيء والثبات عنده مندرج في معنى القوة.
وقد تَنبّه القاضي المالكي أبو بكر بن العربي (543هـ) إلى الاختلاف الواقع بين نقلة التفسير في معنى الركون، وقرر أن حقيقته الاستناد والاعتماد على الذين ظلموا، على الرغم من أنه وردت أقوالٌ عدة في معنى الركون إلى الظالمين، من أبرزها:
اللحاق بهم، وهو مروي عن قَتَادة بن دِعامة (118هـ). والذهاب معهم، وهو مروي عن ابن عباس أيضًا. والطاعة أو المودة أو الاصطناع، وهو مروي عن عكرمة (105هـ). والرضا بأعمالهم، وقد ذهب إلى هذا المعنى أحمد بن حنبل (241هـ)، وأسند ذلك إلى سعيد بن جبير (95هـ)، وروي كذلك عن أبي العالية الرياحي (93هـ)، وهو المعنى الذي أورده الغزالي ونقل عن سلمان الفارسي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أن “من رضي بأمر -وإن غاب عنه- كان كمن شهده”.
وقد حاول ابن جرير الطبري أن يجمع خلاصة تلك المعاني المأثورة بقوله: إن معنى الآية “ولا تميلوا أيها الناس إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله، فتقبلوا منهم وترضوا عن أعمالهم فتمسّكم النار بفعلكم”.
فالدلالة اللغوية هنا هي الميل والسكون والاطمئنان ومن لوازمها القوة المحقِّقة للانجذاب أو الأمن أو الاحتماء، وهي تلتقي مع الدلالات المأثورة عن الصحابة والتابعين في تفسير الآية كالرضا بأعمالهم والانحياز التام لهم كالذهاب معهم واللحاق بهم، وطاعتهم في ظلمهم، والمودة أو الاصطناع لأجل ظلمهم، وهي دلالات يشملها لفظ الركون وتحيل إلى درجات متفاوتة منه، يبقى أن إخراج بعضها من مدلول الآية لا يعتمد فقط على دلالة اللفظ هنا كما ظن رشيد رضا وراح يعدّ عمله تحقيقًا غير مسبوق، في حين كان يكفيه فقط أن ينتقد المبالغة في حمل الركون على مطلق الميل أو على أدنى ميل أو على كل درجات الميل؛ لأسباب لا تقف عند مدلول لفظ الركون فقط بل تتعداه إلى ما يتصل بالنظر إلى المعنى المنظومي وتحليل الخطاب لا الألفاظ، خصوصًا أن ابن فارس نفسه حين تحدث عن الميل أخبرنا بأنه “كلمة صحيحة تدل على انحراف في الشيء إلى جانب منه”، أي إنها انحياز إليه واصطفاف معه، وهذا معنى يتقاطع مع الاعتماد أو الاستناد الذي أراده رضا مثلًا.
وإذا عدنا إلى تفسير الزمخشري المعتزلي للآية محل النقاش هنا، وجدنا أنه فسرها وفق مذهب المعتزلة في العدل، الذين جعلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد أصولهم الكلامية الخمسة، ومن ثم لم يكن من المستغرب أن يوظف اللغة لتفسير الآية؛ بما يتوافق مع مذهبه من ناحيتين:
الأولى: تفسير الركون بأدنى ميل أي مطلق الميل.
والثانية: تفسير “الذين ظلموا” بمن وقع منه أي نوع من الظلم.
وبهذا قطع نهائيًّا مع الظلم في موقف سيصطدم في ميدان العمل والممارسة التي يُعنى بها الفقهاء، خصوصًا أن ابن العربي المالكي ينبهنا إلى وقوع خلاف في معنى “الظلم” الوارد في الآية هنا؛ فهناك من فسره بالشرك كما ورد عن ابن عباس وبعض المفسرين، وهناك من رأى أن الآية عامة في موضوعها، أي تشمل كل نوع من أنواع الظلم وليس الشرك فقط. وقد أصاب رشيد رضا هنا حين فسر “الذين ظلموا” بالظالمين، وأنها مثل “الذين كفروا” التي ترد في آيات كثيرة في القرآن لتدل على فريق الكافرين، فلا حاجة للمبالغة وإدخال كل من وقع منه ظلمٌ في النهي الوارد في الآية والذي يترتب عليه وعيدٌ بمسّ النار.
ولكن يبقى تفسير الركون هنا وهل يشمل كل درجات الميل أم لا؟ تفسير الركون بمطلق الميل ولو يسيرًا من شأنه أن يقود -في السياق السياسي المعاصر- إلى مثالية قد توقع في التكليف بما لا يطاق، كما أنه سيصطدم بجملة إشكالات هي:
الأول: أن مطلق الميل يشمل ميل النفس الطبعي الذي يتناول القرابة والأرحام، وسيصطدم بمفهوم البرّ بهم والإحسان إليهم الذي سيتحول إلى محظور وفق هذا التفسير، وسيؤدي إلى مشكلات اجتماعية تقود إلى نوع من الظلم كذلك. فالركون بهذا المعنى خارج عن النهي الوارد في نص الآية، لأنه ليس ركونًا من أجل الظلم الذي هو مدار النهي في الآية. ومن هنا، نعلم الخطأ في تفسير بعض المفسرين -كالجصاص الحنفي (370هـ) وغيره- ممن جعل الركون بمعنى السكون والمحبة، ومن ثم قطعوا نهائيًّا مع الظالمين فشمل ذلك حتى مجالستهم والإنصات إليهم، ويبدو هذا المعنى جاريًا على أصل المعتزلة.
الثاني: أن مطلق الميل يشمل أيضًا معاملة الظالمين بأي نوع من أنواع المعاملة (والمشرك ظالمٌ أيضًا)، وهذا سيتعارض مع بعض تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في الثقة ببعض المشركين وائتمانهم على بعض شؤونهم، بخاصة في حدث الهجرة النبوية، مما نبه إليه رشيد رضا.
الثالث: أن مطلق الميل يشمل استعانة المسلمين بغيرهم في الحرب، وهذه مسألة مشهورة في الفقه ووقع الخلاف فيها كما جرى الخلاف في تطبيقاتها المعاصرة، ولا شك أن من أجازها من الفقهاء لم يُدرجها ضمن الركون المنهي عنه، وكل هذا بناء على (إن الشرك لظلم عظيم)، وهو داخل في عموم “الذين ظلموا”.
الرابع: أن مطلق الميل سيصطدم بالنصوص الواردة في وجوب طاعة الإمام (السياسي) بالمعروف، وقد أوضح محمد صديق حسن خان (1890م) أن من جملة هذه الطاعة ما يأمر به هؤلاء الأئمة من تولّي الوظائف لهم، والدخول في المناصب الدينية مما ليس فيه معصية، بل الجهاد معهم وأخذ الحقوق الواجبة من الرعايا، وإقامة الشريعة بين المتخاصمين منهم، وإقامة الحدود على من وجبت عليه. أي إن مطلق الميل يعني القطيعة الكاملة وعدم المخالطة لهم وعدم الدخول عليهم ونحو ذلك مما لا بد منه لمن ابتلي بالشأن العام وممارسة السياسة، وذلك يدفع إلى العزلة ونوع من العلمنة وهجرة الشأن العام وتركه لأهل الفساد، وقد شنع ابن تيمية (728هـ) على من رأى مثل هذا الرأي، وأن من فعل من الظالمين برًّا وأُعين عليه فهو إعانة على بر وتقوى وليس إعانة على إثم وعدوان، ويشتد ذلك في “الأمور العامة” التي ترعى المصالح العامة التي تجري على قاعدة “تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين وشر الشرّين حتى يقدم عند التزاحم خير الخيرين ويدفع شر الشرّين”.
لا شك -إذن- أن الآية ليست واردة على مطلق الميل ولو كان يسيرًا أو طبعيًّا، وليست -كذلك- واردة فقط في الاستناد إلى الظالمين والاعتماد على ولايتهم ونصرهم كما فهم رشيد رضا، فالميل يمكن أن يشمل معاني ودرجات توزن بحسب كل فعل وعواقبه، ومن ثم يتصل الأمر بمبحث أخلاق الفضيلة والأثر الذي يتركه في تقويم الأفعال إلى جانب أخلاق الفاعلين. فلا شك أن الظلم بكل درجاته منكر، والكمال هو مجانبة الظلم تمامًا؛ ما أمكن، ولكن الأمر بالعدل وارد بحسب الإمكان وعلى قدر كل شخص وبحسب موقعه ووظيفته، والسياسة اليوم تنطوي على قدر من الظلم لا محالة ومن ثم ندخل في مشكلة الخلط بين الحسنات والسيئات التي ناقشتها في المقال السابق، وما لا يُدرك كله لا يُترك جُلّه، وهنا يظهر الجانب العملي في المسألة الذي أشار إليه وإلى قاعدته ابن تيمية، ويمكن أن نقسم درجات الميل هنا إلى ثلاث:
الأولى: الميل القلبي إلى الظالم؛ لظلمه أو للإعجاب بقوته وبطشه أو للتشفي بمن وقع عليه الظلم، ولا شك أن هذا داخل في الركون المنهي عنه، بخلاف الميل القلبي إلى الظالم لدوافع أخرى (قرابة أو صلة رحم أو نحوها) مما لا يرجع إلى تأييد ظلمه أو الرضا به، لأن هذه مسائل طبعية. فالمسألة هنا مدارها على القطع مع رذيلة الظلم وتحقيق الواجب الأخلاقي في إنكار المنكر حتى بقلبه وهو أضعف الإيمان كما في الحديث.
الثانية: الميل بمعنى الانحياز والاصطفاف، وهو صريح في المساندة والتأييد للظالم والإعانة له على ظلمه، وهو المعنى الذي فهمه ابن تيمية -فيما بدا لي تأملًا- فإنه استشهد بآيات التعاون على الإثم والعدوان، ومظاهرة المجرمين، والركون إلى الظالمين والشفاعة السيئة وسردها معًا بالتوالي لمعنى عامّ قرره، هو أن الظالم لا يجوز أن يُعاون على ظلمه، بخلاف معاونته على فعل البر إن وقع منه وأن ذلك ليس بحرام.
الثالثة: الميل بمعنى التشبّه به أو تمنّي مكانته، ويَسري على هذا من تشبّه بقوم فهو منهم أي اعتبارًا؛ لأنه إنما يطمح إلى أن يتخلق بأخلاقهم ويحتذي بهم، ومداره على رذيلة الظلم التي تلبّثوا بها ورضي بها بل يريد أن يحتذيها.
وهكذا خرج من الركون المذموم هنا المخالطة السياسية المنضبطة بالسعي إلى المصلحة العامة للمجتمع (لا لحركة أو جماعة)، أو بهدف تقليل الشرور، أو دفع شر الشرّين وارتكاب الضرر الأخف في مقابل الضرر الأعم بناء على معطيات وحسابات دقيقة توضح أنه لا محيص عن أحدهما وأن هذا أخف من ذاك، ولكن مع ذلك يجب الاعتراف بأن هذا الأدنى ظلم، وكراهيته وعدم التطبيع معه، لأنه إنما أُلجئ إليه للضرورة ليس إلا.
هكذا يتم الجمع بين النهي عن الركون إلى الظالم، والأحاديث الآمرة بإنكار المنكر ولو في القلب؛ لمجانبة رذيلة الظلم نفسه، وعدم التخلق بها أو التطبيع معها، فيحفظ الفضيلة على مستويي الفعل (حين يطلب المصلحة بتقليل الشرور بقدر الإمكان) والفاعل (بالقطع النفسي والوجداني مع الظلم نفسه مهما خفّ)، وقد أراد رشيد رضا الفصل بينهما والعزل بين سياق الآية وسياق حديث إنكار المنكر، ولا أرى مبررًا لذلك، فضلًا عن أن مباحث الألفاظ ليست هي العنصر الحاسم هنا في تقرير المعاني.
وقد أردت مناقشة الآية المفتَتح بها هنا، نموذجًا على منهجية التفسير التي تجمع بين الدلالات اللغوية والتفسيرات المأثورة، وتحمل النص على المعنى الأعم؛ لعدم وجود المقتضي لحصر النص في أخص معانيه خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالفضائل والرذائل، والانتقال من مباحث الألفاظ إلى دلالات الخطاب في أصل الموضوع ككل، ورعاية الجانبين: النظري الذي يسعى لتثبيت الموقف الأخلاقي من الظلم، والكمال الذي يحمل على الورع والبعد التام عن الولايات أو السياسة التي تنطوي على ظلم، وبين الموقف العملي المصلحي الذي يحركه طلب المصالح العامة وتحمل ما هو محتمل في سبيلها؛ رغم أنه مسلك محفوف بمخاطر لا تخفى وتحتاج إلى ميزان دقيق حتى لا تتحول إلى وزر عليه.
عذراً التعليقات مغلقة