تُصنّفُ منطقة الشرق الأوسط، ضمن مناطق العالم الأقلّ استقراراً والأكثرِ عنفاً والأغزرِ سفكاً للدماء، حاولَ مفكرون كثر دراسةَ الظاهرة، بغية الإحاطةِ بأسبابها وظروف تشكّلها وعلة استفحالها واستدامتها، فاختلفوا في بعض الرؤى، لكنّ شريحةً واسعةً منهم، أجمعت على ماهية السبب الرئيسي في نشوء الظاهرة، والمتمثّل بموقعنا كمستهلكٍ، لم يكتفِ باستيراد معظم حاجياته وآلاته ودوائه وسلاحه، بل أوغلَ تواكلاً، حتى بلغ الأمرُ عتبةَ استيرادِ حزب سياسي بالمواصفات المطابقة لبلد المنشأ، وذات الأمر ينطبق على استجلاب نظريات اقتصادية تخص بلداناً سبقتنا بأشواط، ولعلّ أخطر ما استوردناه كان من خارج الزمان لا المكان، من فقهاء لم يتفقوا في زمانهم بدلالة كل هذا الإرث من الدماء.
حدث كلُّ هذا في ظلِّ قناعاتٍ مغلوطةٍ، تقولُ إن كلّ عِلمٍ أوسع من حسابات الجغرافيا، وأنّ المعرفة مطلقٌ لا يتأثّرُ بتعقيدات اختلاف التراث بين الأمم، وأنّ تراثنا خطه المقدسون فأراحونا من عبء البحث والتفكير، رافق ذلك غفلةٌ مزمنةٌ ساهمت بتمرير كلٍّ واردٍ دون فرزٍ أو فلترة، سواء تم الاستيراد من خارج الزمان أو المكان، مسفهين بكل طرح يوجب مراعاة اختلافنا عن الآخرين وعن الماضي مناخيّاً وثقافيّاً وحضاريّاً.
في مدينة “بلانو” التابعة لولاية “إلينوي”، وفي العام 1951 تحديداّ، شهدَ العالمُ ظهور أولِ مبنى بلّوري، بواجهةٍ كاملةٍ من الزجاج المؤطّر بالمعدن، بعد عدة سنوات انتشر في العالم، خبرُ المبنى الجديد بمواصفاته المثالية، التي حققت رؤيةً أشمل داخلياً واجمل خارجياً، وبكلفةٍ أقلّ من مثيله الإسمنتيّ، لتجتاح العالم بعدها، ظاهرةُ الأبنية الزجاجية.
غزت الظاهرةُ دولَ مجلس التعاون الخليجي، معلنةً بدايةَ سباقٍ محموم بين الخليجيين، في مجال هذا النوع من البناء، دون أي مبالاةٍ بأصواتٍ معمارية، أكّدتْ أنّ هذا النمط لا يتناسب مع مناخ وطقس وطبيعة منطقة الخليج، وباقي مدن السعودية، حيث معدلات الحرارة والرطوبة، أعلى بكثير من مناطق ركبت الموجة في بقية بلدان العالم، ولتدارك الفارق الحراري تم اللجوء لجهود جبارة في التبريد، الأمرُ الذي اعتبره علماء في الاقتصاد هدراً للطاقة، بالإضافة لكلفة كبيرة زائدة، تطلّبتها عمليات تنظيف الواجهات الزجاجية من الرمال، وهو أمر لا تعاني منه مدنٌ أوربية وشرق آسيوية، يحيطها ويتخللها مساحاتٌ واسعة من الغطاء النباتي.
استيرادُ البناء الزجاجيِّ، مثالٌ صارخٌ على تبعات التقليد الأعمى، ومن خلالِ إسقاطٍ موضوعيٍّ، للمثال على أنداده، نستطيعُ استقراء النتائج الأوفر احتمالاً، وبالتالي وضعَ تشخيصٍ مبدئي لكثير من أمراضنا المجتمعية، المستجدة منها والقديمة.
رأينا كيف فشلتْ تجربة استنساخ المبنى الزجاجي، نتيجة الاختلاف في درجات الحرارة وطبيعة البلاد، كما رأينا وبال المكابرة، حين تمّ ترقيعُ الفتق بخرقٍ أشدّ، إمعاناً بالجهل وعزةً بالإثم، دون أدنى مبالاة بما تطلّبتهُ المكابرةُ من هدرٍ لثروات الأجيال القادمة.
هذا الترقيعٌ على علّاته، غيرُ متاحٍ في حالات فشل استنساخ تجاربَ فكريّة أو ثقافيّة، مع الأخذ بعين الاعتبار سرعة ظهور الخلل في استنساخ تجربةٍ عمرانية، عن مثيلاتها من تجارب تتخذُ من العقل والوعي ميداناً لها.
فشلٌ أدّى إلى نتائج كارثية، عند كلِّ استيرادٍ أعمى، ونستطيعُ تتبُّعَ بعض التجارب، وتقييم ما خلّفتْهُ من آثار في مجتمعاتنا ذات الاستيراد، حيث فوجئ المشرقُ بشيوعيّةٍ بلشفيّة اجتاحت العراق ومصر والشام وبلاد المغرب، تبنّتها وروّجت لها طبقةٌ من المثقفين الحالمين بعدالةٍ اجتماعية، من خلال شعارات تطالبُ بإعادة توزيع الثروة، عبر قوانين تصادرُ أراضي الإقطاعيين وتهبها لمن يعمل بها، وقوانين أخرى تعمدُ لتأميم مصانع البرجوازية العميلة للإمبريالية، جاعلاً منها ملكاً عاماً للشعب، بالتزامن مع تغييرات تلغي سلطة الأوليغارشيا الرجعية.
لم تكتف معاولهم بجذورٍ سياسية واقتصادية واجتماعية، ولو اقتصر الأمر على هذي القضايا، لكان الاختلافُ حول قيمٍ معيارية، تقبلُ الزيادة والنقصان، والعدل والتجريح، أمّا أن تحمل بعضُ أدبياتهم مساساً بفكرة الإله الخالق فهذا ما سوّغ لكثيرين شيطنتهم دون حاجة لمعرفة أي تفصيل آخر.
أحدثت هذه الأفكارُ والمطالبُ زلزالاً في بنية الوعي الجمعيّ، وهي ارتداداتٌ متوقعة في بلدان وضعتْ أولى الشرائع التي تقدس الملكية الفردية، وأنجبت كل الأنبياء وما رافقهم من حواريين وصحابةٍ وقديسين، مشرقٌ إليه تحجُّ الديانات التوحيدية الثلاث على اختلاف مذاهبها.
لم تخضع النظريةُ المستوردةُ لأي فلترة، تمّ استجلابها مغلّفةً كما هي من ساحات موسكو إلى حارات دمشق وبغداد والقاهرة والجزائر ومراكش، ليحمل من تبنّى قوالبها وزر التقليد الأعمى، لم يخطر لهم مثلاً الوقوف عند تهمة العمالة بحق برجوازية ناشئة، بالكاد تتهجّى بداية دربها، فضلا عن براءة بعضها من شبهة العمالة، بل إن بعض أولئك البرجوازيين، ساهموا في معارك استقلال أوطانهم وإعادة إعمارها.
لم يرق لأميركا هذا المدُّ الشيوعيُّ المتسارع، أميركا ليست أكبر مصدِّرٍ تتزودُ منه هذه الجغرافيا فحسب، بل هي أكبر مستفيدٍ من نفط هذا المشرق وتخلّفه.
لعل أميركا لم تعثر على نظريةٍ جديدة تتبناها رعيّتها في المشرق، فاضطرت لابتكار أسلوبٍ جديد، يعتمدُ دسّ بعض الأفكار، في عقولٍ تظنّ وساوسها كشفاً عرفانياً سيصلح الأمة، اطمأنت أميركا حين تأكدت من عقم هذه الدعوة الوليدة في جزيرة العرب، وأنها ستبلغُ حتمية فشلها قبل أن يمتد خطرها خارج محيطها، فاتخذتها سبيلاً من سبل التصدي للمدِّ الشيوعيِّ، والعمل على انحساره فيما بعد، نجحت أميركا في صناعة تحالفِ الشيخ والملك، الدين والسلطة القبلية، لإنتاج مذهبٍ تدعمه عصبةُ الدّم في مرحلته الأولى، لحينِ تمكنّهِ في عقولِ أتباعٍ سيجتذبهم الدرب المختصرُ نحو الحور العين، فانطلقت الوهابية، متأبّطةً بتشدد مفرطٍ، نسبته زوراً لأسلاف المسلمين.
قد لا يقتنعُ البعضُ بفكرةِ دعمِ أميركا دعوةً دينيةً تتبنّى منهاجاً حصرياً يلغي الجميع، إلغاءٌ لم يستثنِ حتى المسلمين من أتباع المناهج الأخرى، على الجانب الآخر سيرى العارفون بدهاليز السياسة ما يجعلُ هذا الطرح وجيهاً، فمصلحةُ أميركا في ذلك الظرف التاريخي كانت تقتضي ذلك، حيثُ وجدت في هذا التشدد ضالّتها، فالنزوعُ الأُخروي لهذا التيار، سيزودها بمحاربين أعطوا ظهورهم للحياة، مقبلين على كل موت، صارعين في طريقهم الملاحدة الشيوعيين.
مرةً أخرى تسللت إلى عقولنا نظريةٌ مستوردة من مسائل خلافية في الماضي، تحسست أميركا مصلحةً عليا فدعمتها لتسري في شرايين المشرق دون رقابةٍ تضبطُ تصاعد هذا الخطِّ الإلغائي، غفل الجميع عن الدخيل لتبتلى المجتمعاتُ بداء التكفير، سرطانٌ أكل أحفاد الأنبياء وما يزال.
يروي الكاتب المصري حسن حنفي في كتابه “قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر” حادثةً ظاهرها طريف، لكن باطنها يصف ما بلغناه من “ببغائية” مفرطة، في استنساخ كل ما لدى الآخرين، وملخص الحادثة أن الصحف الألمانية في الثمانينيات بدأت تطالب بتحرير الإنسان الألماني من عبودية الآلة، حيث يقضي الألمان في المعامل معظم عمرهم، وكأنه كتب عليهم أن يشقوا في سبيل رفاهية الشعوب المستوردة، أحدثت القضية ضجةً في المجتمع الألماني، لتتلقف بعض الصحف المصرية خبر المطلب الألماني وما أحدثه من صدى، ناشرةً بعد ذلك مقالات تطالب بتحرير الإنسان المصري من عبودية الآلة! يختم حسن حنفي قصته بأن والد أحد الصحفيين كان يحلم بمحراث زراعي يريح جاموسته الهرمة.
اختلفتْ مستورداتنا، باختلاف المصدّرين، وتفاوتَتْ جودةً ومآرباً، بالشكل الذي ينسجمُ مع مصالح الآخرين وتغيّرِ خططهم سياسياً واقتصادياً وفكرياً، كما استوردنا أشياء ومفاهيم كثيرة لا جدوى منها في بلادنا ومجتمعاتنا، سادت نظريّاتٌ وتقهقرت أخرى. وتبدّلت تحالفات الكبار مراراً.
هذا التناوب والتموّج بين قوي وضعيف، بين مؤثِّر ومتأثّر، لم يشمل دول هذا المشرق المتوسط البائس، بل لعله يحسب لنا ثباتنا في لعب دور المنفعل المفعول به، ربما لم نثبت في موقف سواه، والطريف بالأمر أنّه ثبات أنتج نقيضه، جاعلاً منا عجينة لدنة، بلا هوية ثابتة، وهي نتيجة منطقية تتناسب مع عقول ذات تحصيل استنسابي، تحصيل جنيناه لَماماً، من فتات موائد الدول العظمى، فأثمر وعيا جمعيّا ملوّثا بمخلّفات عملية تصنيع، تمت وراء البحار.
Sorry Comments are closed