في مخيم مؤقت، وقوفاً على الدور، على أرض بعيدة عن أرض الولادة، التقى لاجئ تركي وسوري. ليست الأرض هذه المرة أرض المهاجرين والأنصار، أو أرض دولة العصبة القومية، أو أرض الجغرافيا المتجاورة. حالهما الآن حال واحدة، غريبان على أرض غريبة، ينتظران وجبة طعام غريبة من غريب.
سأل اللاجئ التركي، اللاجئ السوري عن نوع الطعام المتوقع الليلة، فأجابه السوري باللغة التركية، أنه لن يكون “كباب أضنه أو كباب أورفه”، هذه البلاد بلاد البطاطا، وهي وجبتهم الرئيسية، وقد كانوا يأكلونها ويصنعون منها “الفودكا” للتخلص من برد الشتاء هكذا أخبرني قريب لي يقيم هنا منذ ثلاثين عاماً.
شعر اللاجئ التركي أن اللغة التركية ليست اللغة الأم لمن أجابه، فسأله كالعادة مباشرة عن جنسيته، أجابه الواقف أمامه في الدور: أنا سوري، عشتُ في تركيا أربع سنوات.
اهتزّ التركي، حين سمع كلمة “أنا سوري”. بات الكثير من الأتراك أسرى “الفوبيا” السورية، يسمعون كلمة “سوري” فيهتزون ويتغير لون وجههم وملامحهم، وكمواطني أي بلد، يقوم تكوينه على العصبية القومية، أو إيديولوجيا أوهام تميز العرق يعجبهم أن توضع خيبات بلدهم على آخر، لا بدَّ أن تكون المشكلة من الآخر، كي يستمروا في أوهامهم وإعجابهم بذاتهم، وكي لا تهتز صورتهم أمام أنفسهم ويبقوا متوازنين.
يغذي هذا الوهم بارعون في قيادة الرأي العام وتزييف وعيه، لا يريدون لمواطنيهم أن يغادروه، أو يعبروا بهوية دولتهم من القومي إلى الإنساني، ومن العلاقة مع الآخر بصفته مشكلة وآكل رزقنا إلى كونه إضافة. هذه الفوبيا الناجمة عن كلمة “سوري” أخذت تنتشر في عدة دول وُجِدَ فيها السوريون، من لبنان إلى العراق إلى الدانمارك تضعها أحزاب في أجنداتها بصفتها جزءاً من البرنامج الانتخابي، ويشتغل عليها سياسيون مصابون بالخواء، أو صيادون ماهرون في أوجاع الشعوب وكيفية صناعة الرأي العام.
هذا النوع من الفوبيا هو غير “فوبيا سوريا ورهابها” التي تحدّث عنها معجم أوربان حول خوف الشباب السوري من البقاء فيها. ثمة فوبيا تنتشر اليوم في العالم، رصد عدداً من تجلياتها علماء النفس والاجتماع، ويرافقها صورة ونمط يرتسم في العالم اليوم لكلمة سوري، ترتبط لدى كثيرين بالحرب أو تزوير الوثائق أو الكبتاغون أو أنها كانت جغرافيا داعش أو مكاناً لحرب أهلية أو لجوء لم ينقطع عبر عقد من الزمان، السوريون قد يكونون جزءاً من تحديد مسار ذلك المصطلح ودلالاته بمنجزهم، على صعوبة ذلك لأن المراقب للمشهد يجد أن انحساراً شديداً في التعاطف حول الوضع السوري يشهده العالم، وقد أسهم في صناعة هذه الصورة وتنميتها النظام بكبتاغونه، وتصرفات الكثير من السوريين في أوروبا خاصة تزوير الوثائق، ومآلات الأوضاع السورية وتقاطعاتها والدول التي احتلت أجزاء من سوريا ومحاولة شيطنة صورتها.
يبقى لصورة السوري في تركيا النصيب الأكبر من التغيرات المتسارعة، التي ارتبطت بسببين رئيسين: الأول تحولات الوجود السوري في تركيا وتغيراتها وما شابها من ارتكاسات وانتكاسات والعدد الكبير ودوره وأثره.
والثاني التحولات التركية عبر عقد من الزمان، وهي من أكثر البلدان تغيراً في العقد الأخير، فهي بلد يخوض حروباً “أو أشباه حروب” مع عدد كبير من دول العالم، ويمر بعشرات الأزمات الوجودية والتناقضات السياسية والاقتصادية والفكرية والهوياتية، مما جعل ثقة مواطنيه بقادته السياسيين واهية، وبات عدد من قادته متأكدين من أن الحديث عن عصبته القومية غدا مهلهلاً وواهياً وهشاً أمام غزو السوشيال ميديا وتحولات البشرية، خاصة أن أحزابه وقادته لم يستطيعوا إنتاج خطاب دولة المواطنة، التي تشعر شرائح كبيرة منها أنها في الدرجة الثانية، ولم تصل تلك الأحزاب إلى فكرة التنافس في تجويد الخدمات، بل الحديث عن تأمينها أو الحرمان منها بصفته ورقة انتخابية، مما يكشف عن إفلاس طبقته السياسية، التي لم تعد تجد موضوعاً يشدّ عضد ناخبيها؛ غير ورقة اللاجئين والتعصب ضدهم أو تحميلهم مشكلات البلد وانتكاساته الاقتصادية والتضخم في قيمة عملته!
يقول السوري للتركي: أنا لجأت إلى هنا لأنني لم أعد أشعر بالأمان في إسطنبول، ولأن كثيرين باتوا ينظرون إلي كـ سلعة في سوق الانتخابات التركية، لو فُتِحَت الحدود إلى أوروبا أو شعر السوريون بالأمان في بلدهم الأم لوجدت أن أكثر من نصفهم سيغادر تركيا مباشرة. لكن سؤالي: ما الذي جعلك أنت التركي تلجأ إلى بلاد غريبة؟
التفت التركي يمنة ويسرة: لأنني لم أعد أستطيع العيش بمستوى العيش السابق، وأشعر أن حياتي تدور في مكانها، لابدّ من تبديل المكان إن ضاقتْ عليك.
ردّ عليه السوري بعد نظرة طويلة: لكن هذه حجج لا تكفي لمنحك إقامة مؤقتة، تمهيداً للحصول على الدائمة وجواز السفر، أم أن لجوءك مؤقت!
ابتسم التركي: لا عليك! جهزت لهم سردية سياسية تلائمهم، حول الحكم الحالي، والظلم الذي تعرضت له في عملي الوظيفي، وهي سردية يحب الأوروبيون أن يصدقوها. بنينا نحن الترك اللاجئين إلى هولندا سرديتنا بعد محاولة انقلاب 2016.
أجابه السوري: أنتم تلجؤون إلى أوروبا، ولم تقع عندكم حرب، فكيف لو وقعت حرب في بلدكم؟ كم منكم سيبقى؟! وتابع مازحاً: إذاً لن تقول لمحققي اللجوء، إنَّ بلدكم امتلأ بالأجانب واللاجئين وهربتم منهم!
ردّ عليه بجدية: هذه حجة غير إنسانية، ولا تُصْرَف بأوروبا، نحن هنا متساويان في الوجع والوضع القانوني، بل إن الأوروبيين يتعاطفون معكم أكثر منا، لأنهم يعدون مشكلاتنا نحن الأتراك مشكلات عالم ثانٍ، أما مشكلاتكم أنتم السوريون، فهي مشكلات عالم ثالث: “حروب”.
بعد أن حضرت وجبة الطعام، وكانت شاورما تركية حلال، جلسا إلى طاولة واحدة، وكانت لدى التركي لهفة ليستمع إلى سردية اللجوء السوري الرئيسية، فردّ عليه السوري: إنه ليس بحاجة إلى أيّ سردية غير واقعية، فسردية الحرب السورية وأوجاعها، وحالتهم في دول الجوار وغياب الأمان الاجتماعي والنفسي والفكري والشخصي تكفي وحدها لتكون سبباً في منحهم حق اللجوء بصفتهم ضحايا، لم يتوقف ارتكاب الجرم بحقهم بعد.
رد التركي: غير أنكم تتميزون عنا أنهم لا يضطرونكم للتخلي عن جنسيتكم!
أجابه السوري بأن الأمر مردّه ليس تفضيلياً، بل لأن سوريا في مرحلة حرب، وتأمين الإثباتات أمر صعب، إضافة إلى أن هذا يعود إلى النظام السائد في كل دولة، وشروطها في إمكانية أن يكون لدى مواطنيها جنسية مزدوجة أم لا.
أجاب التركي، بالقول: على كل حال، أسهم أتراك قبلنا في بناء هولندا منذ خمسة وسبعين عاماً، حين جاء آلاف من العمال الأتراك بعد الحرب العالمية الثانية، ويبلغ عددنا أكثر من نصف مليون.
رد السوري: وأخذوا أجورهم بكل احترام، وحصلوا كذلك على جنسيته!
شعر التركي أنه ورط نفسه في هذه المعلومة التي ذكرها على سبيل الفخر، فحاول تجاوز الموضوع، غير أن السوري تابع: كيف نشعر نحن السوريين بعد عقد على البناء في بلدكم، وملايين الدولارات من الاستثمارات والمشاريع يقال لنا: ارحلوا، أو نحن سبب الضائقة الاقتصادية في بلدكم، أو لماذا لا تتحدثون لغتنا!
وتابع “على سبيل التسميع” حديثه عما تقوم به الدولة الهولندية من جهود إدماجية للقادمين الجدد، من مثل تخصيص عشرة آلاف يورو لتعلم اللغة الهولندية، وأنها تعين محامياً لكل لاجئ لتضمن له حقوقه، وتخصصه ببيت وراتب شهري لمدة ثلاث سنوات على الأقل ريثما يجد فرصة عمل، ولكل لاجئ شخص في كل مراحل لجوئه يساعده ويشرف على تلبية حاجاته ريثما يمشي في البلاد الجديدة.
حاول التركي نقل الحديث إلى منطقة أخرى فقال: إن تعلم لغة جديدة بعد الأربعين أمر صعب جداً، وإنه سيسعى للعمل في شركات تركية، فلا يضطر لتعلم لغة ذلك البلد.
وبدا أنه اكتفى بما سمعه من زميله اللاجئ السوري، الذي كان ينظر إليه متأملاً، ولا يعرف لماذا صمت فجأة: أهو انشغال بتناول الكباب أم خوف من الحقيقة أم هروب إلى الأمام؟
وقد حضر في ذهن السوري ما قرأه عن مكتب الإحصاء الهولندي، الذي أشار إلى أن عدد المتقدمين الأتراك بطلبات لجوء، حزيران، 2022 بلغ 425 طلباً، في حين بلغ عدد طلبات لجوء السوريين 1931 طلباً، وأخذ يتساءل: أهي منافسة تركية للسوريين على اللجوء أم غيرة أم حسد أم حق كل ضحية أو من يشعر بالظلم أن يبحث عن آفاق حياة جديدة آمنة؟
عذراً التعليقات مغلقة