كانت الثورة السورية فرصة مهمة كي أتعرف على قامات فكرية وثقافية تعمد نظام الأسد تهميشها، واستطاعت بذكائها التحايل على رقابة النظام وقواعده الصارمة، ومررت بعض ما تريده من أفكار ضمن أعمالها الأدبية، وكان أحدها “الكبير” – كما كنت أطلق عليه تحببًا – خيري الذهبي رحمه الله.
تعرفت عليه في القاهرة حين شارك بصالون فكري سياسي بدعوة من الراحل منصور الأتاسي أبو مطيع رحمه الله، حيث قال لي قبيل موعد اللقاء الأسبوعي، سيشارك معنا اليوم مثقف سوري مهم، وكنت أتطلع شوقا لمعرفة من هو؟ وبعد شوق وترقب أتى الموعد، والتقينا جميعا في مقر إذاعة آرابيسك القريب من ميدان طلعت حرب، ويومها اكتشفت الكنز.
كان يتحفنا برؤاه المستمدة من تجارب التاريخ ومن معرفة الواقع الحالي بدقة دون تزييف، حتى أنه كان ينبه في بعض الأحيان بأن كلامه قاس وصعب تقبله، لكني وبعد عدة سنوات قرأت ما قاله لنا شفاهًا في القاهرة، مكتوبا ضمن مقالة أو منشور له على صفحته الشخصية في فيسبوك.
لم يكن رغم ثقافته وعلمه الكبير متعاليًا متكبرًا، بل كان يعامل الناس بمحبة، وتواضع حقيقي يذكرني ببيت الشعر الشهير (ملأى السنابل تنحني بتواضع والفارغات رؤوسُهن شوامخُ)، وكان تعامله معي تعاملا أبويا، كنت أرافقه بعد الخروج من اللقاء سيرا على الأقدام من ميدان طلعت حرب إلى المهندسين مقر إقامته، وأسأله واستفسر منه عن تفاصيل أكثر مما قاله في الجلسة.
كان كل مشوار أقضيه معه يعني لي قراءة كتاب كامل، فقد كان يجيب عن أسئلتي بإسهاب معتمدا على ذاكرته بعد أن ترك مكتبته العامرة بكل نفيس في دمشق المدينة التي يعشقها، وكنت أعود للمنزل فأفتح الانترنت وأبدأ بالقراءة بتوسع أكبر عما قاله لي لأحيط بالتفاصيل وأتعلم أكثر.
حدثني عن فتنة 1860 وكيف تم تحويل ثورة الفلاحين على الاقطاع إلى اقتتال طائفي درزي مسيحي، ثم مسيحي مسلم، وحدثني عن سلاطين بني عثمان الذين تحولوا بقدرة قادر إلى خلفاء للمسلمين اعتمادا على رواية بأن آخر خلفاء بني العباس المتواجد في القاهرة تنازل عن الخلافة للسلطان سليم الأول حين اصطحبه إلى امبراطوريتهم الوليدة، وسخر من هذه الرواية قائلا (وكأن بلادنا مزرعة يملكها الخليفة العباسي ونحن عبيد فيها ويتنازل للسلطان العثماني عن ملكيته) وأكد لي بأن كل سلاطين بني عثمان لم يحجوا لبيت الله الحرام، وحدثني عن التدخلات الأجنبية الدائمة في بلادنا منذ فجر التاريخ خشية امتلاكنا إرادتنا وحريتنا التي ستعتمد على عناصر القوة الموجودة لدينا من موقع استراتيجي ومن فكر وحضارة نملكها فنتحول لإمبراطورية ترهب الشرق والغرب، ونبه إلى خطورة استسهال النصر في الثورة، وأن ثورتنا كسوريين تشكل خطرا على القوى العالمية وستحاربها بكل ما استطاعت، فالسوريين (يقصد سوريا الطبيعية، بلاد الشام) كما أسلفت يملكون أسباب القوة ولا ينقصهم سوى امتلاك حريتهم والانعتاق من النظام المستبد العميل لهذه القوى الخارجية، ويدلل على عمالة النظام من تجربته بخدمته العسكرية في منطقة الجولان، وما حدث فيها من تسليمه للعدو الصهيوني، وتجربة أسره، والتي تحولت فيما بعد إلى كتاب مهم (من دمشق إلى حيفا – 300 يوم في إسرائيل).
كان رحمه الله واعيًا لثقافتنا الوطنية ملما بتاريخنا ودين الإسلام ولم يكن من الخائضين بالنقاش الديني بالهجوم على الدين نفسه، ويناقش بالفكر السياسي المستند لأيديولوجيا دينية بعقلانية ويبطل الأدلة الدينية التي تستخدمها هذه التيارات السياسية بالمنطق والحجة والدليل بعكس الذين يستخدمون لغة الشتم، فقد كان هدفه تنويري وليس عدائي، ففي تلك الفترة ارتفعت أسهم التيارات العسكرية المتأسلمة، كداعش والنصرة وغيرها، وكان يفتخر بأنه حفيد الحافظ الذهبي، وهذا ما دفعه إلى رد قاس على حديث إحدى الصبايا اللواتي يحضرن في الصالون السياسي معنا حين أساءت إلى شخص النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فنهرها بشدة وغضب، وقال لها إن من تتحدثين عنه هو من يتربع بالمركز الأول على عرش أهم 100 شخصية مؤثرة بالعالم – يشير الذهبي هنا إلى كتاب (ترتيب أكثر الشخصيات تأثيرًا في التاريخ) من تأليف عالم الفيزياء الفلكي الأمريكي مايكل هارت – ويجب التفرق بين التيارات المتطرفة التي تستخدم الدين ستارا لإجرامها، وبين الدين نفسه الذي يدعو إلى الحرية والمساواة والعدالة.
كان غاضبا من الدمشقيين لتأخرهم بالثورة على الاستبداد ومشاركتهم الضعيفة فيها، واستخدم مصطلح (الدكنجي) للدلالة على انتشار عقلية صغار التجار الخائفين من الثورة على الاستبداد للحفاظ على مصالحهم الصغيرة الضيقة، وبنفس الوقت كان يوضح بأن استبداد الأسد حارب وضيق وهجر التجار الدمشقيين واستبدلهم بتجار من موالاته، وينفي الأكاذيب التي تقول بأن تجار دمشق وقفوا مع المستبد القاتل ضد الشعب الثائر، وليس في هذا تناقض كما يظهر للعيان، فالمقصود بـ (الدكنجية) – وقد استخدم هذا المصطلح في رائعته (حسيبة) ضمن ثلاثية التحولات – طبقة التجار الصغير، أصحاب المحال والتجارة الصغيرة العادية المحافظين الخائفين من التغيير، الأحفاد الذين ركنوا للسكون ونسوا مغامرات الأجداد الكبرى، والمقصود بالتجار هم كبار التجار المغامرين الطامحين دوما للتغيير.
في رواية حسيبة كنت أقرأ عن الواحة التي ركن إليها المسافرون خلال البادية الشامية، وقرر بعض هؤلاء المسافرين الاستقرار وتابع البعض الآخر مغامرته، وهكذا، كلما أتت مجموعة جديدة ركن البعض للاستقرار وأكمل الباقون السفر والمغامرة، هؤلاء تحولوا إلى (دكنجية) يبيعون الشاي والسكر الأمر الذي رفضه صياح، هذا الثائر ضد الاحتلال الفرنسي الذي عاد من الجبل منكسرا بعد خذلان السياسيين له وبقية الثوار وضاعت بوصلته في المدينة ولم يستطع تحديد العدو الرئيسي فيذهب إلى فلسطين ليحارب هناك، فالعدو واضح ويرفض الاستكانة والعودة للعمل كدكنجي ويستشهد فيها.
في أحد الأيام – وهو العاشق لمدينة دمشق – كنت أحدثه على الهاتف بشغف عن رواية حسيبة وعن صياح المسدي وعن الغصة من خذلان السياسيين لثورتنا، وقرأت له سطرا من الرواية يصف فيها مدينة دمشق، فاختنق صوته وأنهى المكالمة فورا، وأقدر أن دموعه قد انهمرت حزنا على فراقه مدينته التي أحبها، كما انهمرت دموعي ألما وقهرا بعد إسقاط كل سطر من الرواية على ثورتنا رغم أن تاريخ كتابة وصدور الرواية هو العام 1987 أي قبل انطلاقة ثورة الشعب السوري ضد احتلال نظام الأسد لسوريا بزمن طويل، لكن وكأنه كان يتنبأ بهذا اليوم.
كان غارقا بالقضية مبهورا بثورة السوريين، ففي أحد الأيام خطر ببالي كتابة قصص قصيرة للأطفال تشرح لهم العلوم والاختراعات المختلفة، فكتبت نموذجا وأرسلته له أرجو النصيحة والتوجيه ، فجاء الرد موبخًا معاتبًا (ليش كاتب هيك بطريقة مدرسية، من أخبرك أن الأطفال يحتاجون إلى هذا التلقين .. اكتب عن مدينتك المحاصرة ورفاقك في حمص القديمة، اكتب عن أحد الثوار المحاصرين وهو يعيش الصراع بين ألمه من جوع أطفاله وخوفهم من القصف، وبين رغبته بالصمود والاستمرار بالثورة).
لم تخل أحاديثه من الطرائف، فحدثنا عن أحد أساليب الأمن في نشر الخوف بين الناس، فروى لنا قصة حصلت معه في دمشق قبل سنوات من انطلاق الثورة السورية، وفيها بأن أحد الكتاب من أصدقائه طرق بابه، وكان هذا الأديب معارضًا وصوته عال في انتقاد النظام وأجهزته، وحين دخل الضيف إلى المنزل استأذن بالخروج إلى بلكون الشقة، وكانت زوجته قد نشرت الغسيل، وهم لا يحبون أن يرى أحد غسيلهم المنشور، لكن تحت إلحاح وإصرار الضيف اضطر محرجًا لإخراجه إلى البلكون، فبدأ هذا الضيف بفحص وتحسس إطارات باب البلكون والنوافذ الخشبية ثم تنفس الصعداء وعاد للغرفة، وأخبره بأن المخابرات تستخدم جهاز تنصت جديد، يوضع في بندقية خاصة مثل الرصاصة، ويطلق ليستقر بخشب باب البلكون أو نوافذ المنزل الخشبية، ويستطيع الاستماع لكل الأحاديث ضمن مسافة قطرها 100 متر، وأضاف الكبير الذهبي ساخرا، لكم أن تتخيلوا حياتنا بالمنزل خلال فترة طويلة بعد سماع هذا الخبر، الذي يقول بأن المخابرات يمكنهم التنصت علينا حتى ضمن منازلنا ويتعرف على أدق خصوصيات حياتنا، لكنه وجد هذا الكاتب المعارض يقف إلى جانب النظام ويشبح له بعد انطلاق ثورة الشعب السوري، وتذكرت فعلته، ففهمت حينها كيف استطاعت المخابرات السورية نشر الخوف بين السوريين.
بعد انتقالي من القاهرة إلى إسطنبول خففت من تواصلي وحديثي معه خجلا من أني قد اشغل وقته الثمين بغير جدوى، فكانت منشوراته على فيسبوك تحظى بالمتابعة اليومية، فقد رتبت إعدادات فيسبوك بحيث تظهر لي منشورات صفحته أولا بأول قبل أي منشورات أخرى.
إن كان السوريون قد فقدوا برحيل خيري الذهبي في الرابع من تموز الجاري في “منفاه الباريسي الذي لجأ إليه بعد سنوات من التنقل بين مصر والإمارات والأردن صانعًا أساسيًا ممن شارك بصناعة عهدٍ من الوعي والنضج والإنجاز..” حسب وصف الزميل محمد منصور في أورينت، فقد كانت خسارتي مضاعفة، فقد خسرت أحد المعلمين الذين تمنيت أن يطول عمرهم أكثر لأتلقى من أيديهم جرعات أخرى من العلم والمعرفة والثقافة.
Sorry Comments are closed