استوقفني حجم التفاعل مع الأزمة الأوكرانية في وسائل التواصل الاجتماعي العربية منذ بداية التهديدات الروسية قبل عدّة أشهر نهايات عام 2021، والتي تزايدت بالطبع مع اندلاع المعارك في 23 شباط من العام الجاري، فالبعض طرح القضيّة من باب المقارنة السياسية مع أزمة تايوان والصين أو الاحتلال الأمريكي للعراق أو الغزو السوفيتي لأفغانستان، والبعض الآخر تلمّس بوادر تخلّق نظامٍ عالمي جديد، وغيرهم شكك في قدرة أوروبا على الصمود بوجه الابتزاز والتهديد الروسيين دون مساندة من الولايات المتحدة. وكان اللافت لديّ أنّ كثيراً من السوريين ساهموا في هذا الأمر وانطلاقاً من مواقف كثيرة مختلفة، فمنهم من بحث الآثار المحتملة على القضيّة السورية، وكثيرين حاولوا إجراء مقارنة بين الوضعين الأوكراني والروسي، من حيث المواقف الدولية وتوازنات القوى والقدرة على الصمود. لكن ما أثار اهتمامي أكثر هو ظاهرّة التندّر التي تصل لتصبح تنمّراً أو عنصرية واستغلالاً، التي طالت النساء الأوكرانيات بشكل خاص.
يبدو الأمر في ظاهره مجرّد دُعابات يمارسها المقهورون من الظلم، فأغلب السوريين تعرّضوا ولا شك خلال السنوات العشر الماضية لمحنٍ لا يعرف مداها سوى الله عزّ وجل، لكنّ باطن الأمور يحمل تمييزاً سلبياً لا يُدرك معناه – مع شديد الأسف – غالبيّة المتفاعلين مع الأمر. والتمييزُ لا يطال الشعب الأوكراني فقط، بل والسوري أيضاً، فمجرّد أن يعبّر أحدٌ ما من خلال صفحته على فيسبوك أو حسابه في إنستغرام أو في تويتر أو في مجموعات الواتس أب عن رأيه في ضرورة احتضان اللاجئات من أوكرانيا، مع إيماءات وتوريات ذات أبعاد جنسية لا تخفى على أحد، هو بحدّ ذاته امتهان ٌ لكرامة الإنسان أولاً، والمستضعفين ممن اضطرتهم الحروب لترك بيوتهم وبلادهم ثانياً، والمرأة من بين هؤلاء بالأخصّ ثالثاً.
أليس هذا بالذات ما تعرّض له السوريون جميعاً، وبالأخص السوريات، من قبل كثيرٍ من المجتمعات العربية والمحيطة؟ ألم تقع السوريات أو كثيرٌ منهنّ فريسةً لهذا الاستغلال وهذا التنمّر وهذا التمييز السلبي؟ ألم يصل الأمر لمستوى أن يُكتب عنه رسالة ماجستير في الجزائر الشقيقة بعنوانٍ مثير للأسى والاستهجان هو: “تسوّل المرأة السورية في المجتمع الجزائري”؟ وبغضّ النظر عن المحتوى العلمي للرسالة التي لم تخرج عن الضوابط الأكاديمية الرصينة، لكن مجرّد قراءة العنوان تثير الحفيظة والاشمئزاز لما فيه من تعميمٍ وتمييزِ مقززين، ألم نتعلّم أنّ ما يؤلمنا بالضرورة، يمكن، بل هو حقاً يؤلمُ غيرنا؟
أن يصل الأمرُ بشخص يضع قبل اسمه لقب دكتور، ولا أعرف هل هو طبيب أم حامل شهادة دكتوراة في علم ما من العلوم، أن يضع منشوراً على صفحته الشخصية يقول فيه، واسمحوا لي أن أنقل العبارة كما هي باللهجة الدارجة: “لك السوري دائما حظه مصخم، وين ما راح وشو ما عمل! حتى اللاجئات الأوكرانيات ما فيهم يستقبلوهم، بعد تأييد سورية لروسيا!” فأيّ درك هذا الذي وصلنا إليه؟ ولو أردتُ أن أنقل الكلام أو الصور أو التعبيرات التي عجّت وتعجّ بها صفحات وسائل التواصل لما انتهيت بمجلدات!
هل يحمل استقبال اللاجئات الأوكرانيات في مضمونه ميزة للمضيفين مثلاً، وإن كان كذلك، أفلا ينسحب الأمر ذاته على اللاجئات السوريات؟ وما هي المزايا التي تجعل شعباً منكوباً لا يكاد يجد قوت يومه، عاثر الحظّ لعدم استقبال اللاجئات الأوكرانيات؟ هل من سخافة بعد هذا، وهل من انحطاطٍ فكري وأخلاقي بعد هذا؟
لا مشكلة لديّ مع بعض الفئات من غير المتعلّمين أو المؤهلين اجتماعياً، فلا عتب على أفراد هذه الفئات، ما داموا لم يحصلوا على الفرصة التي تجعل منهم قادرين بالحد الأدنى على التمييز بين ما يجوز ولا يجوز، وبين ما يعتبر مزاحاً وما يصل حدّ العنصرية، لكنّ المشكلة تكبر في عيني وعين كلّ امرأة واعية، وفي عين كل إنسان يحمل هذه الصفة، عندما يكون الخائضون في هذا المجال من فئة تدّعي الثقافة أو العلم. الطامّة الكبرى أنّ كثيرين من هؤلاء هم من قادة الرأي وصنّاع القرار وأصحاب التأثير على جانبي الصراع في سوريا! والمشكلة الأكبر أنّ أغلبهم لا يعرفون ما يقترفون من كبائر وآثام خلال مشاركتهم بهذا الأسلوب وبهذه العقلية في مثل هذه القضايا!
لقد خرجنا في ثورة لنرفع كرامة الإنسان عالياً، قبل أن نرفع الأعلام والشعارات، وأنا أتساءل الآن عن جدوى هذه التضحيات التي تجلّت بوطنٍ فقدناه ربّما إلى الأبد، وبشعبٍ تحطّمت أواصر الصلة بين أفراده، مقهوراً كالأيتام على موائد اللئام، شريداً هائماً في البراري والبحار كالطرائد الفزعة من وحوشٍ كاسرة! ماذا جنيتُ، أنا التي كنت في الحادية عشرة من عمري عندما اندلعت ثورة الحرية، بعد أحد عشر عاماً من النضال، والصراع، والضياع، والتشرّد؟ هل يحق لي أن أسأل أبي وأمي ورفاقهما ومن هم أكبر منهم أو أصغر سنّاً، لماذا قمتم بهذه الثورة؟ أليس من حقي الحصول على إجابة منهم؟
لقد نشأت في أجواء الثورة، وعشقتها لعشق أبي وأمّي لها وتفانيهما في العمل لنجاحها، ولن أحيد عن الطريق الذي تبنّيته ورأيته الأكثر إشراقاً وشرفاً وبسالة، لكنني غاضبة لما أقرأ وأسمع، غاضبة لما أتعرّض له وبنات جنسي – أوكرانيات وسوريات – من تنمّر وتمييز لا أخلاقي، مع كلّ ذلك لن نستسلم، بل سنناضل إلى أن نهزم الاستبداد والذكوريّة المهيمنة والتنمّر المقيت والسخافة والانحطاط الأخلاقي، مرّة وإلى الأبد.
Sorry Comments are closed