انطلق رونالد إنجلهارت من فرضية أن التطورات الإقتصادية في العقود الأخيرة أشبعت بشكل أساسي الاحتياجات المادية الأولية لغالبية الشعوب في الغرب مثل (الطعام، الصحة، السلامة الجسدية)، ومن هنا انتقلت القيم السياسية لمرحلة مابعد مادية تعطى فيها أولوية للحريات المدنية وقضايا البيئة وحقوق الأقليات والمشاركة السياسية والمجتمعية ونحوها.
هذه الفرضية برأيي تطرح سؤالين: الأول، إذا كانت الحروب في السابق (سيطرة القيم المادية) تقوم لتحصيل وضع إقتصادي وإجتماعي أفضل أو لتحسين واقع الدول في القيم مابعد المادية وحالة الإشباع المادي لماذا تقوم الحروب ومن أجل ماذا؟
الثاني، في المجتمعات التي لم تصل لحالة الإشباع المادي (شعوب جائعة بمعنى الفقر وتراجع مستوى دخل الفرد، مريضة بمعنى نقص الرعاية الصحية، لاتملك حرية المشاركة السياسية) هل نستطيع طرح سؤال: أليست المناداة بقيم ما بعد مادية فيها نوع من الرفاهة الفكرية؟
قبل عام من الآن لم يكن أكثر المتشائمين على وجه الأرض، يتوقع ما آلت إليه الأوضاع في العالم على جميع المستويات سواء الصحية أو الإنسانية أو الإقتصادية وحتى الإجتماعية، إذ فرض فايروس كورونا نفسه على العالم وبقوة وأحدث هزة كبيرة على جميع المستويات ستبقى ارتداداتها لسنوات قد تغير شكل العالم، والذي كان كثير من قارئي الاستراتيجيات يعتقدون باستمرار حالة الاندفاع نحو عالم أكثر خصخصة في جميع المجالات وأكثر تخصصاً إضافة لاستمرار النقاش حول كثير من القضايا الأقل انتشاراً والأكثر حضوراَ في النقاش العالمي.
فبعد قضايا الفقر والجوع والتعليم والصحة والطبقية التي كانت سائدة منتصف القرن المنصرم، باتت قضايا ما بعد المادية المتمثلة بالبيئة والجندرة والمثلية والإجهاض وازدياد عمليات التخصص الدقيق في معظم المجالات مع الابتعاد عن التعميم وبذلك تغيرت المعرفة من كمية شاملة إلى جزئية مما افقد العلم نوعاَ من رسالته الشمولية التي تميز بها خلال عصر النهضة أو ماتلاه.
هذا التخصص الدقيق أفقد الكثيرين النظرة الشمولية لما يحدث في العالم من تغيرات ولعله السبب الأبرز في تراجع دور الفلسفة -أم العلوم- وعدم ظهور فلاسفة ومفكرين يمكن أن تبني على آرائهم مدارس فكرية تحدث نقلة جديدة في العالم، ففيما كان الكثيرون يرون بأن العالم يتجه للكمال وانه أصبح بعيداَ عن الصراع، ظهرت بؤر صراع جديدة في العالم نتيجة الانقسام الحاد والفارق الكبير بين أولويات الدول.
بحث الدول الكبرى عن مصالحها السياسية والاقتصادية في مناطق بعيدة عن حدودها واختلاف الممارسات الفكرية والأخلاقية بين مجتمعاتها وماتمارسه على مناطق نفوذها أفرز ردود فعل معادية لها تمثلت بالتطرف المعادي لوجودها استهدفتها في عقر دارها.
لم يستمر طويلا التغيير الكبير الذي طرأ على العلاقات الدولية بعد تفجير برجي التجارة العالميين إذ لم يمر عقد واحد على محاولة الولايات المتحدة فرض نفسها بالقوة على العالم حتى جاءت موجات الربيع العربي والتي كشفت تراجع الدور الأمريكي خاصة مع وصول إدارة أوباما والتي كانت وباعتراف الكثيرين فترة انكفاء الولايات المتحدة مما سمح بتمدد قوى أخرى كانت تنتظر الفرصة للانقضاض، فروسيا والصين بدأت بسد الفراغ الذي تسبب به تراجع الدور الأمريكي الذي استمر حتى بعد وصول ترمب للبيت الأبيض والذي كان بداية التغيير والعودة لعهد الشعبوية السياسية ومع أن كثير من المتابعين كانوا يعتقدون بأن شخصاً مثل ترمب قد يفجر حرباً مجنونة في أي منطقة نزاع بالعالم إلا أن ذلك لم يحدث.
لتأتي جائحة فايروس كورونا وربما ليس من قبيل المصادفة البحتة أن تأتي من الصين أو هكذا قيل على أقل تقدير، جائحة الفايروس كشفت كمية الثغرات في النظام العالمي خاصة في قطاعي الصحة والتعليم وضعف الكادر الصحي في دول كانت تعتبر في الصف الأول في ركب الحضارة والتقدم وظهرت ايضاَ ضعف طبيعة تعامل الحكومات مع مجتمعاتها مما فرض واقعاَ جديداً تمثل بالحاجة للعودة لدعم قطاعات الصحة والتصنيع والاحتياجات الأولية والتخفيف من الحاجات الاستهلاكية والترفيهية والذي ظهر بتحول عدد من الشركات لصناعة الأجهزة الطبية والمعقمات والكمامات ومواد التنظيف.
لذلك ورغم التقدم المادي الهائل الحاصل في العالم كشفت معضلة الكورونا أن العالم تراجع بشكل كبير على مستوى الانتاج الفكري (الفلسفي، الاجتماعي) إذ لم تنتج هذه المعضلة مخارج حقيقية للأزمة من الناحية الاجتماعية والأخلاقية.
غرق العالم في مسائل التخصص الدقيق وأهمل المدارس الفكرية التي من الممكن أن تنتج ملهمين وقادة للتغيير، فنحن لا نشبه بدايات القرن العشرين، والمبالغة بالتخصص أفقدت الإنسان القدرة على الرؤية الشاملة، لذلك بتنا نتعامل مع المشكلة بجزئياتها وليس بشكلها العام.
وبالتالي فإن العالم مابعد أزمة الكورونا أمام خيارين: الأول، خوض حروب متشعبة إقليمية ودولية وهو أمر مستبعد لاعتبارات تتعلق باقتصادات الدول من جهة وخوف الفئات الحاكمة من السقوط والانهيار ودخول بلدانها في الفوضى نتيجة ضعف السيطرة.
أما الثاني، هو الانكفاء للداخل وإعادة صياغة الفلسفات المجتمعية على المستوى الفردي والجمعي، فقد تشهد هذه الصياغات تراجع مستوى الفردانية لحساب التعاون الجمعي والابتعاد عن السياسات الرأسمالية على الصعيد العابر للحدود والاقتراب داخلياً من أفكار أكثر عمقاً لليبرالية الاجتماعية.
وربما نشهد تمازج أكثر مابين الليبرالية الحديثة والمقاربات الاكثر شعبية (للاشتراكية ) بشكلها الاجتماعي من قبيل دعم القطاعات الأكثر تضرراً خوفاً من انتفاضات شعبية نتيجة تهميش تلك الطبقات لمصلحة الطبقات الأكثر غنى عالمياً.
قد نشهد تراجع للأفكار والفلسفات مابعد المادية والمتعلفة بمواضيع (البيئة والجندرة والشخصانية) لمواضيع أكثرعمفاً تتعلق بقضايا الصحة والتعليم (الأكثر) جماعية ومشاركة، والابتعاد عن التخصص الشديد والمُركز بعد فشلها في الوصول لحلول سريعة تضمن تقديم ضمانات للمجتمعات المحلية والفئات الأكثر تضرراً.
عذراً التعليقات مغلقة